لا يزال الإنسان يصادف بين آونة وأخرى صنوفا من مفارقات التفكير، ما كان ليتصورها لو لم تقع فعلا في الحياة، وتبدو آثارها للعيان. فقد تجد الرجل المحقق المتفوق في علم أو فن، يبدي فيه الرأي، فإذا له الكلمة الصائبة، والنظرة النافذة. . . ثم يجاوز مادة تخصصه إلى شأن آخر، فتأتي بالكلام الذي لا تصدق نسبته إليه إلا إذا قامت له البراهين على انه قائله، لأنك تجد عندئذ رجلا آخر لا تعرفه، دون ذلك الرجل بمراحل ومسافات.
وأقرب مثل يحضرني اليوم هو الأستاذ إسماعيل مظهر. فمما لاشك فيه عندي أن الرجل مثقف مطلع، ذو مشاركة طيبة في الحركة الفكرية المعاصرة. . . ولكنني رأيته يكتب في جريدة الكتلة مرة ومرة عن كتاب (هذي هي الأغلال) بطريقة عجيبة، فمرة يقول: انه يساوي ثقله ذهباً؛ ومرة يرتفع بصاحبه على مقام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة! ويخلو أسلوبه على كل حال من التمحيص والاتزان اللذين أعهدهما فيه. . .
وعجبت من أن يكتب رجل كالأستاذ إسماعيل بمثل هذا الأسلوب، وأن يعتقد في مثل هذا الكتاب وصاحبه ذلك الاعتقاد. . . وظللت متحيراً في هذه الظاهرة العجيبة. وكنت قد قرأت الكتاب فوجدت صاحبه يتعلق بالتافه من خرافات العوام، ومن الأضاليل الخرافية التي حاربها الزمن في البيئة الإسلامية وانتهى من حربها منذ خمسين عاما أو تزيد. يتعلق بهذا التافه فيصول ويجول في الكفاح والنزال، ويبدو - كما قلت في مجلة السوادى - في هيئة (دون كيشوت) يطعن في الهواء يحسب طواحين الهواء فرسانا، وزقاق الخمر قساوسة! ثم ينتهي في التواء إلى أن هذه هي العقلية الدينية الإسلامية؛ فهي إذن عقلية لا تصلح للحياة ولا لوراثة الأرض. بينما الأوربيون يتبعون منطق الحياة، فهم إذن أولى بوراثة الأرض من أصحاب العقلية الدينية. وإذن فما يحق للشرق أن يثور على استعمار ولا أن يحنق على مستعمرين! وتلك هي النتيجة الحتمية لكل مقدمات الكتاب. ولعلها هي