بقى في (نيويورك) يكدح وراء الرزق الشرود عشر سنين دأباً، ثم أصاب حظاً سعيداً بعد نحس، وارتجع مالاً كثيراً بعد بؤس، فعاد - وهو على عتبة الأربعين - إلى مسقط رأسه (الميناء) بلدتنا الهادئة المنعزلة التي توشك ألا تسمع فيها الأجمال الطبيعية، وألا تحفظ لها ألا الاستعصام بالتقاليد.
وما جداك أن أصف لك (ميناءنا) الجميلة، فما أراك راغباً في الوقوف على ما صنع الغنى بصاحبنا الذي أوى إلى بلدته بعد غيبة طويلة؛ فهل غردت له بلابل السعادة أغاريدها الحلوة، وهل هتفت له هتافاتها الناعمة، أم نعبت له غربان الحوادث بشقاء جديد، ولاعت قلبه بهوان شديد؟
علمت أنه كان في (مينائنا) قبل أن يتسع رزقة ويرفه عيشه مضرب المثل في قناعة العفيف، وعزة الشريف، سليم الفطرة معتدل المزاج حنيف الدين؛ فرجوت ألا ينقلب سهوان عن ماضية، ووددت لو أبقت يد غناه على ذكرى فقره فلم تمح صورتها من مخيلته، ولم تبدد آثارها في فؤاده، ولم تمر شجرتها أمام عينيه، وتمنيت أن يكون له من صدق الأريحية وكرم المهزة ما يذكره بالفقراء والمعوزين الذين لا عمل لهم في بلدتنا إلا في البحر، فلا يحرمهم من صدقات يوزعها، أو زكوات يؤديها، أو ثمرات يجبيها، أو مشروعات يحييها، أو مصانع يؤسسها، أو مدارس يفتتحها، أو ملاجئ ينشئها، وألا يكون المال قد أطغاه، وختم على قلبه فأعماه!.
ولم يكن رجائي إلا كرجاء الذي أراد أن يشم الريحانة فألفاها ذابلة، فما رضخت يده خيراً، ولا اصطنعت معروفاً، ولا كسبت معدوماً، ولا أعانت في نائبة، ولا ساعدت في خطب، وإنما نثرت المال على الهوى يمنة ويسرة، وفي الشهوة عيشاً وبكرة، حتى عادت صفراء خالية، وباتت على إسرافها باكية. . .
أبطره الغنى فعلمه العجب، وأفسده الفراغ فحجب إليه الطيش فأصبح سكران لا يصحون هيمان لا يعي، (غفلان لا يفيق)، وأضحى لا يحفل في الناس أحداً، ولا يقيم لكبير وزناً، ولا يرعى لصغير حرمة، ولا يرقب في ضعيف إلا ولا ذمة، وإنما كان ينظر إلى الجميع