للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[العباس بن الأحنف]

للأستاذ محمود المعروف

في العصر الذي ماج بالعلماء، وزخر بالفلاسفة والشعراء والكتاب، حيث العلم في أزهى أيامه، وحيث (بغداد) قبلة الشرق، فاتحة أبوابها، يؤمها خلق كثير من مختلف بقاع الدنيا، وظل الخلافة ممدود، وتاج بني العباس معقود على جبين (الرشيد) في هذا العصر المشرق؛ لمع نجم شاعرنا، وتألق في سماء الشعر؛ فكان موضع إعجاب معاصريه، وفي مقدمة الشعراء الذين أنجبهم ذلك العصر

قمعت الفتن السياسية، فهدأ جو السياسة والإدارة، وولى الناس وجوههم شطر الملاهي، وانغمسوا في الترف والأنس. ففي (بغداد) الحانات والقيان، وجميع أسباب الملذات والمغريات. ففي مثل هذه البيئة، التي إن لم تكن فاسدة، فإن فيها مجالا لفساد الأخلاق، عاش العباس بن الأحنف، وقدمه (أبو الفرج) في (أغانيه) شاعراً مطبوعاً له مذهب حسن، وديباجة مشرقة، ولشعره رونق ولمعانيه عذوبة ولطف؛ وهذا الوصف قد يغلب على أكثر الشعراء، فهو لم يزدنا علماً بهذا التعريف الذي عرف به الكثيرين من الشعراء

عاش شاعرنا بين قوم يتنافسون في المديح طمعاً بالمال والجاه، ويضرمون نار الفتنة بين العدنانية والقحطانية بفخرهم وهجوهم. ولكنه لم يجاوز الغزل إلى ضرب آخر من ضروب الشعر، وميزته تكاد أن تكون معدومة في ذلك العصر. وأن الباحث ليعجب كيف لم يتأثر هذا الشاعر بما كان حوله من ملذات الحياة وزينتها. وكيف أنه لم ينتم إلى حزب سياسي، أو يشايع أميراً، أو يتملق إلى رجل خطير شأن معاصريه من الشعراء. وفي الحين الذي نرى فيه أن غيره (كأبي نؤاس) و (الخليع) و (صريع الغواني) وغيرهم قد ألقوا بقلوبهم وعواطفهم في نيران الشهوات والملذات، وأسرفوا في المدح والهجاء طمعاً بتأمين رغباتهم وسد احتياجهم. نرى (أبن الأحنف) ينصرف عن كل ذلك إلى الغزل النبيل في حب فتاة واحدة لم ينقلب عليها قلبه، ولم تلتفت عينه إلى واحدة غيرها. فهو في حبه كشعراء (بني عذرة) من حيث الثبات على حب واحد

وقنع من العمر بقصيدة يودعها ما عنده من الآلام، وأبيات من الشعر يشكو فيها ما يلقاه من سهد، ويشرح فيها ما يدور في خلده من خواطر يثيرها الحزن وتبعثها الأشواق

<<  <  ج:
ص:  >  >>