للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ردد في جميع شعره اسم (فوز) وكنى أحيانا بـ (ظلوم) ويستدل من هذا إنه لم يتصنع الحب كعمر بن أبي ربيعة الذي يموج ديوانه بأسماء عشرات الملاح، قد وزع عواطفه عليهن فاعترى أكثرها خمول وفتور. والثبات في الحب أضمن لخلود الشاعر في فراديس الوجدان من التنقل هنا وهناك، فتفنى مشاعره، وتذوب إحساساته، فإن أبدع فإلى أجل معلوم

شغلت (فوز) شاعرنا فلم يندفع في ذلك التيار الجارف الذي اندفع فيه أولئك الشعراء و (فوز) كانت أمنيته الوحيدة في حياته، وشغله الشاغل عن كل ما يحيط به من صور العبث والمجون، فلنستمع إليه يقول:

يقولون لي واصل سواها لعلها ... تغار وإلا كان في ذاك ما يسلى

ووالله ما في القلب مثقال ذرة ... لأخرى سواها إن قلبي لفي شغل

إننا حين نقرأ شعر غيره من معاصريه لا نكاد نخرج من ضجيج سمار إلا ونأتي إلى عزف وقيان، وما نكاد نخرج من خان غص برائديه إلا وجدنا أنفسنا في لجب عصابة تطرق أبواب خمارة بعد هجمة من الليل، وقد فرغت أوانيها من الخمر والشراب

ونقرأ شعره فنجد أنفسنا في جو هادئ من الحب والظرف والجمال. في جو يختلف عن ذلك الجو اختلافاً كبيراً، وفي عالم كله لوعة صادقة وإحساس مرهف، وفي دنيا مترامية الأطراف من الأماني والأحلام. قلنا إنه انصرف عن جميع نواحي الشعر إلى ناحية الغزل، وقلما نجد بين الشعراء في مختلف العصور - والعصر العباسي خاصة - رجلا مثله انصرف عن أمور دنياه بتصوير عواطفه بأبدع الألوان، وتفصيل ما انطوت عليه نفسه الرفيعة في شعر سلس بليغ يستهوي القلوب، ويأخذ بمجامع الألباب، وآثاره تكاد أن تنطق بأنه أحرز سبق المتقدمين والمتأخرين في هذا المضمار. وقد شهد له بذلك أكثر المؤرخين والمفكرين، ومنهم الجاحظ. وقد قال: (لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاماً وخاطراً ما قدر أن يكثر في مذهب واحد من الشعر لا يجاوزه، لأنه لا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعراً لزم فنا واحدا لزومه فأحسن وأجاد. . .)

وقدمه (المبرد) في كتاب (الروضة) على نظرائه، وأطنب في وصفه، ومما قاله: (كان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلاً ولم يكن فاجراً، وكان ظاهر النعمة

<<  <  ج:
ص:  >  >>