مصر في مفتتح عهد جديد، لا يتناول مركزها السياسي فقط، بل يتناول أيضاً كل شيء في حياتها العامة. ذلك أن التطورات السياسية العميقة تحدث أثرها دائما في سائر نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية لأمة من الأمم؛ وقد كان تكوين مصر الاجتماعي في العصر الحديث وليد تطورات وأحداث سياسية خاصة، تختفي اليوم من الأفق ليحل محلها عهد جديد بكل معاني الكلمة؛ وسيحدث العهد الجديد أثره في حياتنا الاجتماعية والفكرية؛ وستتوقف آثاره ونتائجه على مبلغ ما تبديه مصر ذاتها من استعداد وطموح
ومن المعروف أن العوامل المعنوية في تقدم الأمم تسبق العوامل المادية دائما؛ ومصر الآن في مستهل المرحلة الأولى من العهد الجديد أي في طور التكوين المعنوي الذي يلائم هذا العهد. ولما كانت هذه المرحلة من أدق المراحل في حياة الأمم الناهضة، فإنه يجب على مصر أن توليها أفور عناية حتى تستطيع أن تشيد خلالها تكوينها المعنوي الجديد على خير الأسس التي تمهد لها طريق التقدم والنهوض
ولا ريب أن الثقافة القومية هي أقوى دعامة يقوم عليها كيان الأمة المعنوي؛ وقد قطعت مصر بالفعل في هذا الميدان خطواتها الأولى، حتى قبل أن تحقق استقلالها السياسي؛ ولكنها مازالت في مفترق الطرق تنقصها عناصر الاستقرار في توجيه ثقافتها الجديدة. وهذا التردد طبيعي في تكوين الثقافات القومية الناشئة؛ بيد أنه يجب ألا يطول عهده، ويجب أن تحل مكانه عوامل الاستقرار المنشود بسرعة؛ وعندئذ يبدأ بناء الصرح المعنوي الذي يقوم عليه كل شيء في حياة الأمة الجديدة
ومصر تتمتع اليوم بثقافة حسنة، ولكن ينقصها كثير من العناصر القومية الحيوية. ومن الصعب أن نحدد لون هذه الثقافة أو نوعها، فهي اليوم مزيج متباين من ثقافات مختلفة يرجع تكوينه إلى ظروف مصر السياسية والاجتماعية في العصر الأخير. ولقد قيل في مناسبات كثيرة إن مصر تتمتع بنوع من الثقافة اللاتينية وإن هذا النوع من الثقافة، أعني اللاتينية، هو خير ما يلائم عقلية مصر ومشاعرها، كأمة من أمم البحر الأبيض المتوسط