تجري أحكام القدر على أسباب خافية من حكمة الله لا يؤثر في منطقها مقتضيات السياسة، ولا مناسبات الظروف ولا مجاملات الصداقة. ولو كان لهوى النفوس ومشيئة العقول أثر في تدبير الأحداث وتغيير الأقضية لما اخْتُبل في ذلك الوقت هذا الطالب العراقي المسكين فأراق على ثرى دار الحقوق البغدادية نَفْس الدكتور سيف، ودم الدكتور عزمي، وهما يجاهدان غريبين في سبيل العلم، ويؤديان مخلصين للعراق فروض المودة. وأقول في (ذلك الوقت) لأن وقوع هذا القدر المروِّع في هذه الساعة التي تنعقد فيها أَوَاخي المصاهرة بين مصر وإيران أتاح لبعض النفوس الجاهلة أو المريضة أن توازن بين ما يفعل إخوان النسب وبين ما يعمل إخوان العقيدة. ومثل هذا الحادث المشئوم يقع في كل قوم وفي كل يوم، فلا تضطرم له القلوب، ولا تضطرب به الألسنة، ولا تهن منه العلائق، ولكن وقوعه ظلماً على الغريب النافع، من القريب المنتفع، أعطاه معنى التضحية وجعل له تأثير الشهادة. وابن الوطن إذا قتل في وطنه كان مصابه مصاب أسرته، وإذا قتل في وطن غيره كان مصابه مصاب أمته أضف إلى هذه الملابسات شائعات مكذوبة وتعليقات مشوبة استطار بها السماع فدلَّست على الناس وجوه الحكم، وآذت أصدقاء العراق وعارفيه فهبوا يصححون الخطأ في المجالس، ويعلنون الصواب في الصحف، رعاية لأسباب الإخاء، وإدامةً لتعاون الفكر، وضناً بأخلاق هذا الشعب النبيل على الأفواه القارضة.
شهد الله أني قضيت بالعراق ثلاثة أعوام لم ينلني فيها كلمة تؤذي ولا فَعلة تسوء؛ إنما كنت أتقلب في بغداد كما يتقلب الطفل على أحناء الصدر الحنون، لا أحس غربة، ولا أستشعر وحشة، ولا أجد في العيون ولا على الشفاه إلا العطف عليّ والإعجاب بمصر.
وربما وجد المصري في غير مصر تناكرا بين وجه ووجه، وتدابراً بين عاطفة وعاطفة، إلا في العراق، فإنه يجد وجهه في الوجوه وهواه في الأهواء؛ ويحس أن الأدب الذي درس، والتاريخ الذي قرأ، يتمثلان لباصرته وذاكرته في كل شخص وفي كل شيء؛ ويرى أن هؤلاء الناس الذين خُلقوا كما خُلق من النهر ذي الغرين الخصب، وعاشوا كما عاش على الأرض ذات الطلَّع والحب، لا يختلفون عنه في سَحنةٍ ولا خلق؛ والعراقيون من جهتهم يؤيدون حسبانه ووجدانه بالطلعة الأنيسة، والمروءة الجزْلة، والكرم المحض.
كانت مصر إذا ذكرها في المجلس ذاكر نزعت إليها قلوب القوم كما تنزع الأسْرة إلى