للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عَصَبتها النازحين إلى بلاد الذهب والأدب والجمال. وكان المصريين في بغداد على قلتهم منزلة ملحوظة بين الجاليات الأخرى لا تحوم حولها شبهة الارتزاق ولا سُبَّة التشرد، لأن العراقي وإن كان ضنيناً بخيره على الأجنبي الواغل، يعرف عن المصري ما يعرفه كل الناس من عزوفه عن النقلة من قرية إلى قرية، فكيف بالرحلة من وطن إلى وطن؟

وهذا الذي رأيته بعيني لا أزال أسمعه بأذني من الأساتذة المصريين الذين لا يزالون يسفرون بين الشعبين الشقيقين بالثقافة والمودة. فالأحاديث التي تندس اليوم إلى الأندية اندساس الفتنة لا ترجع إلى حق ولا تذهب إلى منفعة. وهذا الحادث على فظاعته ظاهرة من ظواهر المجتمع، يحدث في الأمم المدنية كما يحدث في الشعوب الهمجية؛ ويقع من القريب على القريب، كما يقع من المواطن على المواطن؛ وحقد النفس على النفس من طبائع الإنسان، وضلال العقل ووهن الأعصاب من آفات الحي، وما يستطيع غير الله أن يعلم خوافي الصدور وخوائن العين.

فماذا كانت تعمل حكومة العراق وأمة العراق لتدرأ ذلك العدوان الفردي المحتوم وقد تهيأت أسبابه خفية في نفس مضطربة وأعصاب موهونة ويأس مضل؟ إن الذين قَالوا إنما كان هناك وعيد كُتب، وتهديد قيل، لم يثبتوا أن الصديق الجليل عزمي قد عاج بهذا الوعيد، أو أخبر الحكومة بهذا التهديد. وإذن لا يبقى إلا نزق الشباب الذي لا طِبَّ له، وقدر الله الذب لا حيلة فيه.

إن العلاقة بين مصر والعراق طبيعية لم يفتعلها طمع الاقتصاد ولا طموح السياسة؛ إنما هي علاقة الدم واللغة والأدب والتاريخ والمجد والعقيدة؛ فإذا طاشت يد هناك، أو هفا لسان هنا، فلا ينبغي أن يقع ذلك من البلدين الأخوين إلا موقع العبث الضروري الذي لا تكون الحياة دنيا إلا لوقوعه فيها، ولا يكون الإنسان بشراً إلا لوقوعه منه.

هذه كلمة كنا نود ألا نقولها، فإن الحاجة إلى تقرير الود بين الصديقين مظنة لوقوع الشك فيه، ولكن قعائد البيوت وأحلاس المقاهي لا يحبون أن يزجُّوا فراغهم الثقيل إلا بزخرفة الأحاديث على حساب الحق، فلم يكن لنا ولهم بد من هذه الهمسة!

أحمد حسَن الزيات

<<  <  ج:
ص:  >  >>