بعد ليل غاشي الجوانب تراكمت على (الوادي) همومه، وطريق دامي المسالك تشابهت على الدليل رسومه، انجلى الغيهب الكثيف عن وضح الفجر، وانتهى الطريق المخيف إلى أمان الغاية؛ فحمدنا السُّرَى عند الصباح، ورضينا الغنيمة بعد المعركة، وهدهدنا الأمانيَّ على نشيد الفوز.
كنا مقيدين لا نملك مع القيد مجال العمل، ومحجورين لا نجد مع الحجر سبيل التصرف، ومستذلين لا ندرك مع (الامتيازات) معنى الكرامة، ومستقادين لا نعرف مع (الاحتلال) عبء التبعة؛ فإذا كانت مصر الأمسِ قد مشت عرجاء في طريق التقدم، وجاهدت عزلاء في ميدان العيش، فإنما كان وِزْر ذلك على الغاصب الذي سلط قوته على الحق، ومنفعته على العدل، فحجز البلاد عن وجهتها الحرة حقبة من الدهر أوْفت على نصف قرن. أما اليوم وقد انكسر القيد، وانتفى الحَجْر، وتصاغر الامتياز، وقال لك القوى الغالب: لقد رشدت فتصرف في أمرك، وشببت فدافع عن حَوزتك، واستقلت فاحكم في بلدك، فلا يسعك في تقصير عذر، ولا يسعفك في دفاعٍ حجة.
هذه ثروة النيل التليدةُ والطريفة، عبثت بها أهواء القيم المفروض بالباطل، فنقص النامي، وبلُد الحساس، وفسد الصالح، واعوج المستقيم، وتنافر المنسجم؛ فكل شيء فيها معتل يفتقر إلى علاج، أو منتشر يحتاج إلى ضبط. فإذا قصرنا الجهد أو أكثره على تنفيذ المعاهدة، من إنشاء الجيش وبناء الثكنات وشق الطرق، ظل حالنا على ما كان من بؤس العيش، ونقص الكفاية، وعجز القدرة. وهل يكون الأمر حينئذ إلا حبس قوى الأمة على الاستقلال في السعي إليه أو في المحافظة عليه؟ وهل يزيد الاستقلال على أن يكون استرداداً للحرية المسلوبة؟ تنعم الأمة في ظله وهي آمنة، وتعمل في حماه وهي حرة، وتحكم على مقتضاه وهي سيدة؟
أن إعداد الأمة لحمل نصيبها من أمانة الحياة ورسالة الحضارة وعهد المحالفة، يقتضي أن تتظاهر ملكاتها الموجدة، وكفاياتها المدبرة، وقواها المنفذة، على طرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها؛ وهذه العلل الثلاث هي جمَّاع العلل، لا تجد عاهة من عاهات الجسم، ولا آفة من آفات الروح في الفرد أو في الجماعة إلا ضاربةً فيها بعرق. أو واصلة إليها بسبب. والأمة كلها خَلْق سَوِيٌّ كامل لا تستطيع أن تقويه وترقيه إذا عُنيت