كل ما فينا عاطل يبغي العمل، وباطل يريد التغيير، وَرثٌّ يطلب التجدد؛ وتلك مخلفات العهود السود وتركات الأجيال المريضة، نمت فينا نمو الجراثيم يزرعها ويغذيها المحتل الذي لا يرحم، والحاكم الذي لا يعدل، والواغل الذي لا يعف.
كان من جرائر فقد الاستقلال في الحكم أن فقدناه من كل شيء حتى في الذات؛ فنحن نفكر تابعين، ونعمل مقلدين، ونعيش متواكلين، ونسعى على غير اطمئنان ولا ثقة. وقد ظهرت هذه التبعية واضحة في الآداب والعادات، وهي أدخل الأشياء في بناء الشخصية وأبعدها عن التراث المشترك بين الأمم كالعلم والحضارة.
ولعل أقبح آثاره ما نجد في الشباب من رخاوة العود وطراوة الخلق، وفي الكهول من ضراعة النفس وضعف الإرادة؛ فإن ترك الدفاع عن أنفسنا لغيرنا كَسَبَنا طباع العيش الأبله من الوداعة والإغضاء والرضى، فلا ترى في الجملة من يغضب للإهانة، ويثور للعدوان، ويتحمس للخصومة. وأن استبداد الأجنبي بأمرنا من دوننا قتل فينا التفكير، وأنام فينا الضمير، ودهانا بطائفة من طبائع الاستبداد كالملق والنفاق والتواضع والأثرة؛ فالأمة مستنيمة لهوى الحكومة، والحكومة مستكينة لإرادة المحتل؛ وبين طبقات الشعب ودواوين الحكم منافع مسعورة لا ترتوي، ومحاباة مهتوكة لا تستحي، وتواكل غفلان لا يفيق.
نعم كل ذلك كان نتيجة لفقد الاستقلال ما في ذلك ريب؛ ومن الممكن أن يكون وجوده علة في عدم هذه النقائص على التدريج مسايرة لفعل الزمن؛ ولكن الوقت ضيق والفرصة عجلى والضرورة حافزة، فلا بد لأولياء العهد الجديد أن يغسلوا أدران العهد القديم بالسموم، ويحسموا أدواء الماضي بالكي، ويجعلوا بين العهدين سدا من النار والحديد لا ينفذ منه إلا مصهور أو مطهَّر.
نريد أن ندخل العهد الجديد في لباس الإحرام: صدورنا نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسنا بريئة من شهوات العصبية، وميولنا نزيهة عن خسيس المطامع.
كنا نعيش كما يعيش السَّوَام في البر أو السمك في البحر، لا تجمعنا وحدة شاملة، ولا توجهنا غاية معينة؛ وكان ذلك أثراً محتوماً للسلطات التي كانت تتنازع الحكْم، والتيارات التي كانت تتوزع الثقافة، والامتيازات التي كانت تمزق المجتمع.