للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أدب التمرد]

للأستاذ عباس محمود العقاد

في ختام مقالنا عن أدب الموافقة قلنا (إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة: فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص، وكل ما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال)

فليس كل التمرد إذن خيراً من كل الموافقة؛ وليس كل التمرد ابتكاراً وخلقاً واستقلالاً بالرأي والفطرة. فكيف على هذا نميز بين التمرد النافع المحمود والتمرد الذي هو ضرب من الموافقة المعكوسة؟

والمحك الذي لا يخيب ولا يخطئ في التمييز بين كل أدب صحيح وكل أدب سقيم هو هذا: هو أن الأدب الصحيح لن يكون آلياً يجري على نمط الأشياء التي تصنعها الآلات والتي تعرف سلفاً كما يعرف كل مصنوع في قالب مصبوب.

والأدب الذي يوافق ولا يخالف (آلي) محض، لأن صاحبه ينزل عن مرتبة الإنسان إلى مرتبة الآلة التي تحذو حذو ما سبقها ولا تضيف إليه أو تمسه بتحسين وتنقيح.

وكذلك الأدب الذي يتمرد على كل شيء ولا يميز بين ما هو أهل للموافقة وما هو أهل للنسخ والمناقضة إنما يصنع كما تصنع الآلة ويغنيك عن صاحبه كل الغنى، لأنك تعرف رأيه قبل أن تسمعه، وتدرك أسلوبه قبل أن تراه.

وغاية ما بين هذا وذاك من فارق أن الموافق يؤتى له بشيء فيراه كما يراه السابقون ولا يحب أن يراه على خلاف ما نحلوه من لون ورسموه من شكل ونهجوه من طريق: يقال له هذا أبيض، فيقول نعم هذا أبيض؛ ويقال له هذا جميل، فيقول نعم هذا جميل.

أما المتمرد الكاذب أو المتمرد المصطنع فأنت تعلم ما يقول عن الأبيض قبل أن يلمحه بعينه، وما يقول عن الجميل قبل أن يتأمله بفكره ويروزه بحسه وبصره: فالأبيض عنده أسود، والجميل عنده قبيح، والنافع عنده ضار، والضار عنده نافع على غير قياس وفي غير تمييز وتمحيص. فإذا به ينزل عن مرتبة الإنسان وينقلب آلة معروفة الوزن والحساب على العكس والمناقضة؛ ومثل هذا لا يخلق جديداً ولا يحمل في عالم الأدب والفن أمانة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>