للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مثل المهذبين من بني آدم]

عندنا في دارنا الريفية عصبة من كلاب الحراسة مختلفة الأسنان والألوان والجنس تعيش في حال مدينة عجيبة: في الليل تتعاون على النباح وتتساعد في الهجوم، فإذا نبح أحدها سواد إنسان أو ريح ذئب استنبحها جميعاً واستعدادها جميعاً، لا تسأله ماذا نبح ولا لماذا عدا. وفي النهار تركض متقابلة في ظلال الشجر، أو ترقد متجاورة على قش الأرز، تتهارش حيناً وتتفلى حيناً، والصغير يعمد إلى الكبير فيعضه وهو هادئ مستسلم، والضعيف يجرؤ على القوي فيركبه وهو وادع مستكين.

ثم هذبناها فتهذبت، ودربناها على النظام فتدربت؛ وألقى في روعها أن تأخذ بطرف من مدينة الكلاب الأوربية فأحسنت لثم الفم، وأتقنت ملق العين، وأجادت بصبصة الذيل؛ ثم أسرفت في الرقة وأغرقت في التظرف حتى ليكاد كل كلب منها أن يقول: ضعوا على رأسي القبعة!!

تلك حال كلابنا ما دامت خارجة من سلطان البطن عالية وسافلة؛ فإذا قدم إليها الكلاب وجبة الغداء، أو عثر أحدها على عظمة في حواشي الفناء، انقلب التراحم قسوة، والتعاطف جفوة، والتهارش حرباً، والتفلية عضاً، والمدنية وحشية، والإيثار أنانية؛ فالأم تنكر ولدها، والأخ لا يعرف أخاه، والطعام الوافر المختص والمشترك تتنازعه المخالب الحداد والأنياب العصل، فيخرج بالخطف من فم إلى فم، وينتقل باللقف من يد إلى يد؛ والكلاب الضعاف والجراء الصغار يقفن منكمشات على بعد، يسألن بالحق ويتوسلن بالقرابة فلا يرين إلا النظر الشزر، ولا يسمعن إلا الزئير المهدد؛ حتى إذا غاب الطعام في الأجواف، ولعقت الألسن آثاره على الخراطيم، أقبلت الأم على ولدها، وأقبل الذكر على أنثاه، وعطف الأخ على أخيه، وعادت إلى الكلاب حياتها المدنية من مرح الهراش وحنان التفلية وألفة النباح!!

ذكرت بهذه العصبة عصباً أخرى في (ليك ساكسس) وفي (قصر شايو) تلبس الفراك، وتحذق المواضعات، وتحفظ الرسوم، وتفتن في الظرف، وتبالغ في المجاملة؛ فإذا لمس أحدهم ثوب الآخر من غير قصد اعتذر، أو لفظ جملة من غير ابتسام تأسف! يقضون أيامهم في التشاور الرقيق، ويمضون لياليهم في التزاور البهيج؛ ويأدب بعضهم لبعض المآدب الفخمة، يتساقون فيها الوسكي على نقل (الكافيار) ويتناوبون الرقص على نغم

<<  <  ج:
ص:  >  >>