للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من وحي الصوم]

هيام المتصوفين

للشيخ محمد رجب البيومي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

مَن مِن الناس غير المتصوفين يلوذون بالمقابر الموحشة في الغياهب الحالكة، وكأنهم يخفون إلى رياض مونقة يداعبها عاطر النسيم؟

اقرءوا ما سطره البهلول في سكون الأجداث، وتعالوا معي نتساءل كيف أوحت إليه من المعاني الممتازة ما توحيه الجنان الضاحكة لشعر مطبوع؟! أليس هذا من العجيب؟

وما تقولون في الأحلام الساحرة التي يشاهدها القوم في تلك الأماكن الباكية؟ وهل علمتم أن منهم من رأى في منامه قبوراً تنشق وتخرج منها طيور مجنحة تملأ الأفق، ثم يسطع نور علوي من السماء فيلبس الأجداث حللا بيضاء، ويهب نسيم عاطر فينعش الأموات!!

خيال غريب، وتزداد غرابته حين نعلم أنه أستمد أصوله من الأشلاء المتناثرة، والظلام الدامس، والحجارة الصماء!

أضف إلى ما تقدم كله، ما عرف عن القوم من السهر الطويل ومحاربتهم النوم بشتى الوسائل، ولعلهم يجدون في سكون الليل سلماً إلى التحليق في أجوائهم العالية، فقد شاع لديهم أن أعمال المؤمن تتبدد وتتلاشى إذا عرفها الناس، أما الأعمال المستترة فهي الباقية الدائمة، ومن ثم لاذوا بالظلام وتسربلوا ثيابه السوداء، فنشطوا للعبادة نشاطاً يغبطون عليه!! وتفرغوا للركوع والقيام فإذا نشر الفجر أجنحته تحسروا كثيراً لرؤية الضياء!!

أي سلاح كانوا يستعينون به في مصارعة هذه الأهوال؟!

لا شيء غير الصبر الجميل؛ فقد وطنوا أنفسهم على تحمل كل مكروه؛ وهم يرحبون بالأذى في الله ترحيباً يفوق كل ترحيب؛ ولهم في ذلك روائع مدهشات. قال ذو النون المصري: دخلت على مريض أعوده فسمعته يئن فقلت له: ليس بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه. فصاح من أعماقه: لا ولا صدق في حبه من لم يتلذذ بضربه! وهذا رد مسكت بليغ وقد صفقت بدون وعي وأنا أطالعه في مصارع العشاق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>