ولكن مهلا! فلأنصار الروحية من البراهين على وجود الله ما يقوض هذا المذهب ويدكه من أساسه دكاً، لأنه إذا ثبت وجود الله فقد نهض الدليل على صدق العقائد الدينية قوياً دافعاً، وبطل هذا الهراءُ الذي يهرف به الطبيعيون، ونحن نتخير من تلك البراهين ما يلي:
(١) أن ما في الطبيعة من نظام دقيق وجمال خلاب يستحيل عقلاً أن يكون قد جاء عرضاً بغير تقدير وتدبير، فإذا كانت الظواهر المادية تسير وفق طائفة من القوانين الثابتة المطردة، فلابد أن يكون هنالك من صاغ لها هذه القوانين واكسبها ما لها من قوة وثبات. كذلك يستحيل أن يكون جمال الطبيعة وتناسق أجزائها مصادفة طارئة، وإلا كنا كمن يزعم أن الساعة إذا تحطمت عُددها وانتثرت أجزاؤها، أمكنها أن تلتئم من تلقاء نفسها، وان تبدأ السير والحركة من جديد!
(٢) أن مجرد وجود فكرة الله في أذهاننا دليل على حقيقة وجودها في الخارج؛ وذلك لأننا نتصور بعقولنا كمالاً مطلقاً، وهذا الكمال لا يتم إطلاقه إلا إذا وجد وجوداً فعلياً، فإن لم يوجد كانت فكرتنا عن الكمال ناقصة صفة الوجود، وفن هذه الحالة - أي في حالة اقتصار فكرة الكمال على مجرد التصور الذهني - نناقض أنفسنا، فنكون كمن يقول:(أني أتصور كمالاً مطلقاً ولكنه ناقص!) مع أن الكمال والنقص لا يجتمعان.
وهنالك من الأدلة الأخرى على وجود الله ما هو شائع معروف.
وبعد هذا كله فهل ترى هذا المذهب الطبيعي قد فسر لنا شيئاً؟ إن قضيته باختصار هي أن الكون كله مادة يسيرها القانون، وأن العقل الإنساني كسائر الظواهر قطعة من المادة تتبع في سيرها نفس القوانين التي تسيطر على قطعة من الحجر!
(١) أما أن الكون مادة فقط، فلا يقدم ذلك في القضية ولا يؤخر، لأنه قول لا يقلل شيئاً تعد أن خلصت الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن الذرة المادية ليست كائناً بسيطاً، بل أن كل واحدة منها عالم دقيق على جانب عظيم من التركب والتعقد وأنها قادرة من تلقاء نفسها على التكون والانحلال والتحول، كذلك لم يعد الحد الفاصل بين المادة والقوة محدداً واضحاً