خرجت من عند ليلى وقد انتصف الليل، فما كدت أبلغ الجادة حتى لمحت إنسانة تعدو خلفي في الدربونة فالتفت فإذا هي ظمياء
- دكتور، متى أرجع إليك؟
- حين تشائين يا ظمياء، ولكن ما الموجب لهذا الاستعجال؟
- هل نسيت البقية من قصة ليلى مع عبد الحسيب؟
- ما نسيت. ارجعي إليّ مساء الغد يا ضمياء، ومعك ماعون من الكُبّة الموصلية
لا موجب للنفاق في هذه المذكرات. إن ظمياء فيما يظهر تتشهى أن تتكلم في عبد الحسيب؛ وأنا فيما يبدو أتشهى الكلام عن درية؛ وأكرر ما كتبته من قبل:(إني لا أعرف كيف يلذعني هذا الاسم) وربما كان هذا من جنون الشعراء، فأنا شاعر مقل، ولكن الإقلال لا يمنع من التشرف بجنون الشعراء. ولعل الإقلال أدل على الجنون؛ وإلا فما كان الذي يمنع من أن أفجع العالم بعدة دواوين ليصبح شعري حديث الأدباء في سائر البلاد؟
درية! درية! ما أعذب هذا الاسم! وما أشقاني في (استلطاف) الأسماء!
رجعت إلى المنزل وأنا أتشوق إلى اقتيات النعاس، فقد كنت انتشيت في حديث ليلى، والمنتشون يتشوقون إلى الهجود؛ كذلك سمعت. ولكني صادفت ما أطار النوم من رأسي، فقد وجدت جريدة الشباب بين البريد وفيها هذه الكلمات:
(فجع الأدب والعلم ونكبت الأخلاق الكريمة بوفاة الأديب الكبير المحقق والكاتب العبقري المنقطع النظير المرحوم الأستاذ محمد صادق عنبر المنشئ الشهير واللغوي المعروف، فقوبل الخبر بحزن شديد، وألم عميق، لما أشتهر عن المرحوم من واسع العلم والإطلاع وصدق الوداد ومكارم الأخلاق)
وقد هدني هذا الخبر المزعج، ونشر أمام عيني كثيراً من الصور والأطياف، فتذكرت أني رأيت صادق عنبر أول مرة سنة ١٩٢٣ في جريدة الأخبار، فسألني عمن أفضل من الشعراء فقلت: شوقي. فقال: أسألك عن الشعراء الثلاثة. فقلت: من هم؟ فقال: أبو تمام