للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مذاهب الفلسفة]

مذهب الذرائع

للأستاذ زكي نجيب محمود

لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا نحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلاً فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت تسائل: ما المادة وما الروح وما مبعثها ولكنها باءت بعد طول الكدح والعناء بالفشل والإفلاس. . حتى جاء الفكر الأمريكي الحديث الذي يقدس العمل ويمقت البحث النظري المجدب العقيم، وأراد أن ينجو بالفكر نحو جديداً، فلا يكون من شأنه كنه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه. ولقد كان أول من صاغ هذا المذهب وليام جيمس (١٨٤٢ - ١٩١٠) الذي اعترف أنه قد استمد أصوله وقواعده من أشتات قديمة. وأن له فضل الصياغة والتعبير. أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه فهي في أوجز عبارة: أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً.

إنه لمن الغفلة والشطط أن نُؤتى هذه القوة العقلية فنبددها في البحث عما وراء الطبيعة من قوى مما لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء؛ إن العقل إنما خلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يصور بريشته عالم الغيب المجهول، الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب، وليكن مقياسه الذي يفصل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العلمية، فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته. وكل شيء يؤثر في الحياة تأثيراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مطابقته أو عدم مطابقته لما يخلقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يُعَوّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدها؛ فإن كان الرأي مثمراً نافعاً قبلناه حقيقة، وإلا أسقطناه من حسابنا وهما باطلاً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>