- ما رأيتك يا محمود على هذه الحال منذ عرفتك! أين السماحة التي تفترُّ في ثغرك، والغبطة التي تشرق في صدرك، والرضا الذي كان يجعل من حياتك نموذجاً لعلماء الدين وجهابذة العلم وفلاسفة الخلق؟
- ماذا أصنع يا صديقي والناس أصبحوا يشككونني في مزايا الأخلاق وقِيَم الفضائل؟ كنت أضطرب في دائرة ضيقة من العيش فيها كل ما في الدنيا الواسعة من لذة الروح بالأهل، وسرور القلب بالإخوان، ومتاع العقل بالكتب، ونشاط الجسم بالعمل؛ وليس فيها البُحران الذي يحدث من حمَّى الهموم، ولا الجحيم الذي يشبُّ من تحاسد الخصوم، ولا اللجب الذي ينشأ من تنافس المجتمع؛ وكنت وأنا في هذا العالم الصغير المحدود أعتقد أن القواعد التي سنها الأخلاقيون لتهذيب الإنسان من الخلال المضادة لغريزته، قد استطاعت على مر القرون أن تخفت في دمه صوت الحيوان، وأن تلائم بين موهوب الطبع وبين مكسوب العادة من تناقض الرأي وتعارض الهوى، وأن تجعل من سلطانها الغالب دستوراً لحياة الناس، فيكون بها مقياس السؤدد، وفيها سبب الرقي، ومنها وسيلة النجاح. نعم يا صديقي كنت أعتقد ذلك وأستبعد أن يكون للمدنية معنى غير الثقافة، وللثقافة مدلول غير الكفاية، وللكفاية نتيجة غير الفوز، حتى ألجأتني طبيعة عملي العامِّ إلى توسيع هذه الدائرة، فوسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة، فإذا كل ما قرأته زور، وما تخيلته وهم، وما اعتقدته باطل. ماشيت العامة على منهج الدين فلقيت الكفر، وعاملت الخاصة على هوى الخلق فوجدت النفور، وعالجت الأمور على مقتضى القانون فأدركت الخيبة؛ فذهبت أفتش في الناس عن أسباب الفوز فلم أجد من بينها سبباً يمت إلى الفضيلة أو يتصل بالكفاية. هذا الباشا فلان يملك القرى بإنسانها وحيوانها وأطيانها، وله المقعد المرفوع في البرلمان، والصوت المسموع في الحكومة، والأمر النافذ في البنوك، وهو رجل لا يزال على الفطرة الأولى من الوحشية والعنجهية والجهالة. وهذا البك فلان تشغل عمائره الخلاء والهواء من المدينة، وله على أغلب الأسر دَين، وعلى أكثر البيوت اختصاص؛ ولو سألت جيرانه الأولين عن مصدر هذا الثراء الضخم لأجابوك بلهجة