المحنَق الموتور بأنه الربا الذي لا يحفل القانون، والغش الذي لا يبالي الفضيحة، والاختلاس الذي لا يخشى الله، والبخل الذي لا يذكر الموت. وهذا الموظف فلان يملك القصر المنيف في أجمل بقعة، والسيارة الفخمة من أعلى طراز، والمرتب الضخم من أول درجة، وله الوصل والقطع في أمور الناس، والمنح والمنع في أموال الدولة. فهل بلغ ما بلغ بعلمه؟ إنه لا يحمل غير الشهادة الثانوية. هل نال ما نال بكفايته؟ إنه لا يحسن غير الإمضاء في الموضع الذي يضع عليه الكاتب الصغير إصبعه من الورقة. إذن لم يدرك الرجل ما أدرك إلا بفضل المرونة التي تكون فيمن خلقوا من المطاط لا من الطين، فرأسه ذو وجهين، ولسانه ذو شقين، وضميره ذو بالين، وشرفه ذو رأيين؛ يداري ويجاري، وينافق ويمالق، ويهان فيغضي، ويستباح فيبيح؛ وهو متفرق الأحاسيس فلا تجتمع له عاطفة، متنافر المنازع فلا ينسجم له رأي، معوج المسالك فلا يستقيم له مذهب
وهذا الأستاذ فلان يأكل في صحاف الذهب والفضة كالنابغة، ويخطر في مطارف النعيم والجاه كابن العميد، ويملك للناس الضر والنفع كابن عبد الملك! فلعله أصاب ما أصاب من وراء علمه وخلقه. ليت ذلك كان فتشذ القاعدة ويخطئ القياس، ولكن الأستاذ نجح وا أسفاه لأنه باع العلم بالسياسة، واشترى الدنيا بالدين، واضطرب في مهب الأعاصير حتى رفعه أحدها على متْنه، ثم استقر على المنحدر الشاهق استقرار الريشة القلقة!
ثم رجعتْ أبحث عن أسباب الفشل فوجدتها لا تخرج عن حدود الفضائل التي تعشقها ابن آدم منذ أدرك! فالعلم والصدق والصراحة والشجاعة والقناعة والأمانة والنزاهة والأنفة والحلم والتواضع والجود، كل أولئك عوائق عن درْك الغنى ونيل الجاه وكسب الشهرة. وأقوى البراهين على إقناعك أن تستقريَ أحوال المصابين بهذه الخلال فهل تجدهم إلا أواخر الموظفين في الديوان، وأخسر المتعاملين في السوق، وأضعف المتنافسين في المجتمع؟
لقد تدبرت الأمر فوجدت الفضائل لا تنتصر إلا في الروايات والقصص؛ أما التاريخ الذي يسجل الواقع ويروي الحق فهو دامي الصفحات بأخبار الأنبياء والعلماء والفضلاء والمصلحين الذين أوذوا في سبيل الدين، وقتلوا في خدمة العلم، ونكبوا في مرضاة الحق، وشقوا في حب الفضيلة. فهل تقول بعد ذلك إن الأخلاق الفاضلة لا تزال عدة النجاح