كان الذوق في العصور الذهبية يتكون في الأديب - كما ذكرنا من قبل - بالدراسة الفقهية لعلوم الأدب، والقراءة النقدية لروائع الفن، والصحبة المتصلة لأمراء البيان، وغشيان مجالسهم، وطول الاستماع إليهم، وأخذ النفس بمحاكاتهم، وامتحان الآراء والأذواق بمحاكهم، بعد أن يجمع الأديب وعاء قلبه على خير ما أثر عن العباقرة الذاهبين من بليغ النظم والنثر في الأحوال المختلفة والأغراض المتنوعة. فلما خلت تلك العصور، وذهب في سبيلها أحبار البلاغة، وجاء هذا العصر الآلي العجول، نشأ عن انتشار الثقافة السطحية فيه نوع من المساواة الظاهرية بين الأذهان في التحصيل والتفكير، فأخذ كل أديب يقرر ولا يستشير، ويجيب ولا يسأل، ويكتب ولا يقرأ. ولماذا يقرأ؟ إن الكتاب المعاصرين لا يكادون في رأيه يتميزون عليه، وإن الأدباء المتقدمين لا يمتون إلى حياته بسبب؛ والأبهاء والأندية لا تسمر بأدب الجاحظ ولا بحكمة المتنبي ولا بفلسفة أبى العلاء؛ وأكثر أولياء الناس لغتهم أجنبية وثقافتهم أوربية فلا يعرفون قيمة الأدب العالي، ولا يعرفون مكانة الأديب الحق
إنما يقرأ متأدبوا اليوم صحف الأخبار ومجلات الفكاهة وأقاصيص اللهو وملخصات العلم. وأكثر ما يقرءون صور منقولة أو مقبوسة عن أدب الغرب لا تربى في القارئ إلا ذوقاً مذبذباً لا يثبت على لون ولا يستقيم على خطة. ومثل هذا الذوق الملفق المستعار لا ينظر إلى (الأمالي) و (الأغاني) و (اللزوميات) إلا كما ينظر إلى العمامة والقباء والجبة؛ فهي في حكمة أشياء قضت عليها (المودة)؛ وللمودة في كل يوم زي يتجدد معه الذوق ويتعدد!
وليس معنى ذلك أن الذوق الأدبي العربي فسد في كل نفس؛ إنما نتحدث عن الكثرة؛ والكثرة في عهد الديمقراطية تتحكم في القلة: تحدد لها المستوى، وتعين لها الاتجاه، وتنصب أمامها الغرض؛ بله العدوى، فإنها إلى الأصحاء مؤكدة سريعة
على أن في كتاب العربية المعاصرين صفوة مختارة لا تزال في وسط هذه الأذواق المتنوعة المتناقصة مخلصة للذوق الطبيعي الخالص، تذود عنه، وتدعو إليه، وتأبى أن تنزل به إلى تمليق الدهماء ولو فقدت في سبيله انتشار الصوت ورواج القلم. وأغلب هذه