الشعر أسبق ظهوراً من النثر في عالم الفن الذي يحتفي صاحبه بإنشائه وتنميقه، ويتعمد إيداعه شعوره وأفكاره على نحو جميل يراد له السيرورة والبقاء. فالشعر يظهر ويرتقي والأمة ما تزال متبدية قليلة الحظ من الثقافة وأسباب العمران، أما النثر الفني فلا تدعو الحاجة إليه ولا تتم وسائله إلا في أمة متحضرة مستقرة واسعة الثقافة منتشرة فيها الكتابة الخطية، فالكتابة الخطية تتيح للكاتب أن يتوفر على إنشاء النثر المنمق، الذي يحوي تعميقاً في التأمل واتصالا في المجهود الأدبي وتدبيجاً للفظ، وتتيح أيضاً للنثر الفني أن يبقى ويذيع. أما الشعر فهو غني بموسيقاه ورويه عن تقيد الطروس، وهو أهل للنهوض بحاجة الأمة المتبدية، من التعبير عن عواطفها وأفكارها البسيطة؛ ومن ثم ارتقى الشعر الإغريقي كما يتمثل في ملاحم هوميروس رقياً عظيما، والأمة ما تزال إلى البداوة أقرب، وتطور حتى تفرع منه فن جديد هو فن التمثيل، كل ذلك قبل أن تتوطد قواعد النثر اليوناني، وقبل أن يبلغ مبالغه على أيدي هيرودوت وتيوسيد وأفلاطون.
وكلا الشعر والنثر مدينان في ظهورهما ورقيهما - كسائر الفنون - للدين والدولة بفضل عظيم: ينشأ الشعر مختلطا بالموسيقى مصاحبا للرقص في الحفلات الدينية، التي تحفلها الجماعات الأولى في مواسم آلهتها، وينفصل عن الموسيقى والرقص ويخرج من حظيرة الدين إلى حظيرة الدولة، فيمدح الملوك ويزين قصورهم كما كان يفعل الشعر الإغريقي في عصر الطغاة، وعلى أيدي الكهنة يتألف أول ما تعرف الأمة من مبادئ النثر الفني، من نبؤات مسجوعة وحكم وعقائد مدونة أو شفاهية وقصص عن الملوك والآلهة، ثم ينحاز الكتاب الناثرون كما انحاز الشعراء إلى بلاطات الملوك ودواوينهم، يزجون بضائعهم وينزلون آمالهم؛ ثم يستقل الشعر والنثر عن حظيرتي الديانة والدولة قليلا قليلا، بشيوع الرقي العقلي وانتشار الثقافة وتميز شخصية الفرد عن شخصية الجماعة، فيصبح كل منهما