أَذَّن بلال الفجر، وأرسل صوته الندي العذب بنداء الإسلام، وهرع المسلمون للمسجد لأداء الصلاة خلف رسول الله وعلى وجوههم سحابة حزن عميق، وفي عيونهم ذبول هم دفين، فلما التأم عقدهم، جلسوا في المسجد ينتظرون مقدم الرسول، وقد اشتد شوقهم لسماع حديثه الجميل الذي يُبرد غلة أفئدتهم، ويزيل غمة نفوسهم. . . ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى دخل المسجد، وسلم على من فيه، ثم تقدم للصلاة واصطف حوله الأصحاب، فركع الأولى، ثم قام من الثانية، ورفع يديه بالقنوت، ودعا على قبائل (رعل وذكوان وسليم) الذين قتلوا القراء في (بئر معونة) ونكلوا بهم شرَّ تنكيل. . . وأمَّن المسلمون على دعائه، وقد نال منهم مقتل إخوانهم كل منال، ونزلت عليهم بمقتلهم أفدح كارثة، وأنكى مصيبة. . . ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلي ما وجد على قتلي (بئر معونة) لأنه لم يرسلهم لقتال، وإنما أرسلهم ليبينوا شرعته، ويبلغوا رسالته. . . فلم يشهروا سلاحاً، ولم يثيروا حرباً. . .
وخرج الرسول من المسجد يسير مع صحبه في أزقة المدينة، وقد توسطت الشمس كبد السماء، حتى أشرف على الصحراء. وهناك وقف (حسان بن ثابت) بينهم ينشدهم قصيدته في رثاء قتلى (بئر معونة)، وبينما هو يقول:
على قتلي معونة فاستهلي ... بدمع العين سحاً غير نزر
على خيل الرسول غداة لافوا ... ولاقتهم مناياهم بقدر