ذهبت البارحة إلى مسرح الحمراء. قد سمى الأوربيون كثيراً من ملاهيهم باسم الحمراء بعد أن حرفوه إلى الهمبرا. سألت نفسي في لطريق كيف حرف الاسم هذا التحريف؟ فقالت: إن الزمان ليطمس الأعيان ثم يذهب بالآثار، فما إبقاؤه على الأسماء؟ أشفقت من هذا الحديث أن أتغلغل فيما وراءه من الآم وأحزان، فقلت: فيم الفرار من الكد والعناء إلى هذا الملهى إن بدأت حديثه بالمراثي والمصائب؟
أخذت مكاني بين الجالسين فسرحت طرفي في طراز عربي من البناء والنقش، وإذا منظر يفتح لي من التاريخ فجاجاً ملأى بالأهوال والعبر. لبثت أتأمل البناء متحرزاً أن اجتازه إلى ما وراءه من خطوب التاريخ. ومازالت أصوب النظر واصعده في المسرح حتى جمد البصر على دائرة في ذروته لاحت فيها أحرف عربية، فكنت وإياها غريبين في هذا الجمع (وكل غريب للغريب نسيب) بل كنت وإياها نجيبين في هذا الحفل لا يفهمها غيري، ولا تأنس من الوجوه الحاشدة بغير وجهي. أجهدت البصر الكليل في قراءة الأحرف فإذا هي (لا غالب إلا الله) يا ويلتاه!
شعار بني الأحمر الذي حلوا به قصورهم ومساجدهم.؟ إنها لسخرية أن توضع هذه الكلمة الجليلة في هذه الكلمة في هذا الملهى، وأي جليل من ماضينا المجيد لم يتخذه القوم سخرية؟ قرأت هذه الكلمة فإذا هي عنوان لكتاب من العبر، قلبته صفحة صفحة ذاهلاً عما حولي فلم انتفع بنفسي في مشهد اللهو واللعب، ولم تحس أذني الموسيقي والغناء. أغمضت عيني عن الحاضر لأفتحها على الماضي. وصمت الأذن عن ضوضاء المكان، لتصيخ إلى حديث الزمان.
وناهيك بجولان الفكر طاوياً الإعصار، منتظما البوادي والأمطار، واثبا من غيب التاريخ إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى غيب التاريخ.
شهدت في ساعة جيوش طارق غازية من الزقاق إلى البرتات، وشهدت مصرع عبد الرحمن الخافقي في بلاط الشهداء، وشهدت جلاد الأجيال من المسلمين والأسبان، ورأيت الناصر في حربه وسلمه ملء العين جلالاً ورهبة، وملء القلب عدلاً ورحمة.