كم في السيرة النبوية من أسرار التشريعية لو رجعنا إليها لأغنتنا عن الاستعانة بغيرها من التشريعات المنحرفة، في عصر ظلت فيه السياسة ظلالا بعيداً، وطغت فيه التعصبات الحزبية حتى أعمت الأمم عن النظر في مصالحها العامة، وآثرت عليه النظر في مصالحها الحزبية، وحتى ثارت في كل أمة خصومات وخلافات خطيرة تفرق كلمنها، وتقضي على الأخضر واليابس فيها، لأن الحكومة تكون فيها على أساس الحزبية، فكل حزب يعمل كل ما يوصله إلى الحكم، ويرى مصلحته في هذا فوق غيرها من المصالح
وقد أخذنا نظمنا الحديثة في الشورى على تلك الأمم، وقلدناها في تلك السياسة الحزبية العمياء، فظللنا وجه الصواب كما ظلت، وأخذنا نتخبط في حكمنا مثلها تخبطا معيبا، حتى اضطربت أمور الحكم فينا، وحررنا من الاستقرار الذي لتفرغ فيه لمصالحنا
ولو رجعنا إلى السيرة إلى السيرة النبوية لوجدناها سنة نظام الشورى على وجه يسود فيه التسامح، ولا يغلو في التعصب للرأي إلى ذلك الحد المعيب، فسارت سياسة الحكم في هدوء، واستقرار الأمر استقراراً ظهر فيه الحق بوضوح، فلم يعمه عن أعين الناس تعصب للرأي ولم يصرف الأمة من مصلحتها العامة مثل ذلك التغالي في الخلاف
وقد تم ذلك في غزوة أحد من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في السنة الثالثة من الهجرة، فقد وقع فيها خلاف بين المسلمين انقسموا فيه إلى فريقين: أحدهما يمثل الكثير، وثانيهما يمثل القلة، فحل الخلاف بينهما على وجه لا اثر فيه للتعصب ولا يمكن أن يكون هناك أتم منه في وجوه الشورى
وكان ذلك الخلاف أن رجالاً من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، لمل كانوا يسممونه من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من شهدها، وعظيم ثوبه فكانوا يودون غزوة ينالون فيها مثل ما ناله أهل بدر وإن استشهدوا، فلما سار المشركون في غزوة اتحد إلى المدينة رأوا أن يخرجوا منها لقتالهم، وعرضوا رأيهم هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم