تعم الشرق العربي نهضة تشمل مختلف نواحي الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولكي نسير بهذه النهضة إلى الأمام يجب أن نقيمها - ونحن في بدايتها - على أسس وطيدة تلائم استعداداتنا العقلية وتقاليدنا الاجتماعية. وذلك يلزمنا بأن نتوجه إلى حضاراتنا العربية نبعث تراثها من جديد؛ ونستكشف من بين ثنايا مخلفاتها مقوماتنا النفسية، واتجاهات ميولنا الفكرية، ومعاييرنا الخلقية، وعاداتنا الاجتماعية. فيجب علينا أن نجد في بحث تراثنا العربي لا نترك فيه علماً أو فناً من غير أن نستوفي دراسته، ونسرع في نشر أبحاثه في جميع أنحاء العالم العربي، حتى يدرك كل عربي ما هي المبادئ المقومة لفكره، وما هي الاتجاهات الثابتة التي ينزع إليها دائماً عقله؛ فيأخذ في تنمية مواهبه، ويشغلها بالموضوعات التي تتفق مع نزعاته الفكرية الصحيحة؛ وكل ذك يؤهل الشعوب العربية لأن تقوم وتؤسس حضارة عالية تنشأ في أحضان الأصول الروحية الشرقية وترتقي بنضوج الخصائص الرئيسية لعقليتنا العربية. . .
علينا إذن نحن العرب واجب مقدس نحو مستقبلنا الحضاري، وهو أن نتعاون جميعاً على تحليل علوم العرب وآدابهم وفنونهم إلى عناصرها الأولية، قاصدين معرفة محتوياتها وأصولها وبواعثها ومناحي مذاهبها. وأحسب أن تحقيق ذلك يتطلب دراية واسعة وفهما عميقاً لكل التيارات الثقافية التي أثرت في العقلية العربية، حتى يمكننا أن نميز بين ما هو أصيل في الحضارة العربية وما هو دخيل عليها، ولذلك قبل أن نقدم على مثل هذه الدراسات، يجب أن نتزود بالزاد الثقافي الذي يعدنا للاشتغال بتراث العرب، وأن نحدد لمختلق العلوم والآداب والفنون البرامج الثقافية التي تعين كل باحث في تفهم مادة بحثه وفي هذا المقال سأحول أن أضع البرنامج الثقافي الذي أرى أنه يفيد كل من يرغب في الاشتغال بالفلسفة العربية. . .
نشأت هذه الفلسفة في بيئة ثقافية معقدة أشد التعقيد، وتطورت في ربوع شعوب متباينة الاتجاهات، وتأثرت بحضارات متعارضة النزعات. فلقد كان العالم العربي يمتد من غرب الهند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وضم بلاد الأندلس والمغرب ومصر والشام وشبه