ما لهذه الحياة تمزج الجد بالهزل، وتخلط الحق بالباطل، وتجمع بين الشدة واللين، وتوائم بين الصعب والسهل؟ لعلها تبتغي أن تنفث في الناس الأمل فلا يعتريهم الملل، وتبعث فيهم المرح فلا يضنيهم الأسى، وترسل فيهم الرجاء فلا يقتلهم اليأس!
سعادة البك رجل نيف على الأربعين، نال حظا ضئيلا من الثقافة العربية والفرنسية، درج في بيت من بيوت المجد والغنى والجاه، وكان أبوه الباشا يعتز به ويدلله ويقربه إلى نفسه وقلبه في وقت معا، فشب يرفل في الثراء والنعمة، ويتألق في الصحة والعافية، ويتقلب في السكينة والهدوء. يأوي إلى المسكن الرحب الأنيق، ويسعد بالثوب الغالي الجميل، ويسكن إلى الطعام الشهي اللذيذ. يقضي أيامه بين القاهرة والعزبة، يأخذ من هناك لينفق هنا عن سعة، ويستمتع في الريف بالهدوء الوداع والخمول الرخو، والهواء النقي، والخضرة النضيرة، ويستمتع في القاهرة بالصخب المثير، والحركة المستمرة، واللهو البريء. وهو إن وجد في العزبة ما يشغل بعض وقته فهو في القاهرة لا يجد إلا صراعا عنيفا بينه وبين الزمن: يريد أن يقتل الوقت فيقتله هو، ويحاول أن يلمس فيه الراحة والطمأنينة، فلا يحس إلا الضيق والضجر. والأيام تمر وهو يقضي صدر النهار قلقا مفزعا لا يجد الصاحب ولا الرفيق، والناس في شغل عنه. وهو في آخر النهار بتذبذب بين شرفتي الكونتنينتال وشبرد، يضطرب من نضد إلى نضد، ومن جماعة إلى جماعة، وصحابه جميعا من ذوي المكانة والشأن، ومن أصحاب الرأي والكلمة، يجلس إليهم في الشرفة ويزورهم في المنزل، ويرافقهم في اللهو، ثم هو يهيئ لهم المآدب الفخمة، والسهرات العابثة، يدعوهم إلى الملهى والمسرح فلا يتمنعون. وهم لا يملون صحبته، ولا يمل هو، فهو خفيف الظل لطيف المعشر، طيب القلب، حلو الحديث، بارع النكتة، حاضر البديهة، لا يثقل على واحد منهم بحاجاته، لأنه في غنى، وهو لا يشغل نفسه بحاجات غيرة.
عرفته منذ شهور، وقد ران عليه القلق من أثر الفراغ، وسيطر عليه الاضطراب من أثر الخمول. ولقد اطمأن إليّ فراح ينشر أمامي نوازع نفسه وخطرات ضميره: فهو يطمع في