للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحب دوحة الأدب]

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

لا يستهوي الشعراء في الحياة شيء قدر ما يستهويهم الجمال ولا تجذبهم إلا نظاهر السحر في الكون، ولا تلفت أنظارهم سوى ملامح الغموض بين مجالي الطبيعة. هكذا هم دائماً، وهكذا كانوا في كل العصور الماضية على نحو ما ترينا النصوص والآثار التي تركوها لنا. وأعجب من هذا أنهم يمتازون بحب الجانب الذي أغفله الناس جميعاً ويهتمون بالنواحي التي لا تشغل الكثيرين ولا تهم الغالبية العظمى من الأحياء. فتجدهم مثلاً يلتذون من الصمت المطبق حيث تنفرد النفس بذاتها وتأخذ في اجترار أفكارها وتحرص على الانسجام الداخلي الخالص. أو ترى بعضهم يتغذى بمشاهدة الغرابة والظلمة كما تتغذى الديدان، في باطن الأرض، بالطين والجذور. وعلى هذا النحو نستطيع أن نؤكد اتجاها لم يكن بالعادي في حياة الشعراء والأدباء من بين مخلوقات الله، وأن نسجل عليهم ضربا من الهواية الشاذة التي لا يحياها ولا يقبل عليها سوى من ألفت روحه الانزواء والعزلة واعتادت نفسه الغربة والوحشة وعانى قلبه خفقات اليأس والحرمان.

والحب من الظاهرات العادية التي تحصل في حياة كل إنسان؛ ولكنها عند الشاعر تأخذ رسالة أخرى وتتسم بطابع معين وتتشرب بمشرب خاص. وأستطيع أن أكشف لك عن الفارق الذي يميز حب الشاعر من حب الآخرين عن طريق حقيقة نعرفها عن الأديب، وهي أنه إنسان فردي أو إنسان لا يشترك في الحياة العامة إلا بقدر حتى يملك الوقت الكافي لتسطير مشاعره وتحبير آرائه. فالأديب - وهذا هو ما ينبغي له - لا يعمل إلا حيث يصير الزمن في خدمته ولا يقبل على الكتابة والتأليف إلا عندما يفارق الناس. ومهمة الأديب بطبيعتها تلزمه نوعاً من الحياة لا يشاركه فيها غيره ممن تقتضي أعمالهم مخالطة الناس والانصراف إلى قضاء الأمور تحت أنظار العامة. وبعبارة موجزة نقول عن الأديب أنه يحكم عمله يأخذ برأي نيتشه في ضرورة المحافظة على ما بنينه وبين الناس من أبعاد. فهو انعزالي بالضرورة ويستحيل أن يحيا كما يحيا سواه بين مظاهر المجتمع البغيضة وتحت رحمة الأوضاع القاسية. ومن هنا يحاول الشاعر أن يوجد لنفسه عالماً خاضاً وأن يخلق لذاته دنياً من الأوهام التي يسلط عليها ذكاءه وقدرته على الكذب والتخيل

<<  <  ج:
ص:  >  >>