حتى تتحول بمضي الأيام إلى واقع ملموس. وتصطبغ كل خطوة في هذا العالم أو كل حركة تصدر عنه بشيء من الرهبة والقداسة وتأخذ ألواناً قوية في عقله بحيث تصير موضع احترامه ومهابته
وهنا أهمس في أذن القارئ سراً لعله لا يعرفه حتى الآن. فأنا أرجو منه أن يشك كثيراً في حوادث الغرام التي اعتاد الشعراء أن يقصوها على ألسنتهم بمناسبة وبغير مناسبة. إن حياة الشاعر أو الأديب عموماً تكون من الفراغ والتفاهة من ناحية الوقائع الجارية بحيث تخلو من أية صفات الجرأة التي تصورها القصائد. وإذا حصل شيء من الأشياء العادية في حياته فإنه - مهما بلغت بساطته - يصير ذا أهمية لديه ويحسبه النعيم المقيم والفردوس الخالد تبعاً لما يعانيه من النقص في التجارب ومن الفقر في العلاقات. مثله في ذلك كمثل الطفل حين تهدي إليه لعبة فاخرة عند حلول المواسم والأعياد أو كمثل الجائع الذي تطعمه طعاما لذيذاً بعد أن ظل أياما طوالا غير قادر على امتلاك ما يسد رمقه أو يشفي نهمه. فالشاعر عندما يسبغ على الحادثة الطفيفة في حياته معاني القداسة وعندما يلقي على الأفعال العادية لديه ظلا من الروعة والبهاء؛ أو قل عندما يحاول أن يضفي على الذكرى البسيطة ضرباً من الانكشاف والبروز فهو يأتي ذلك بسبب ما نرى الآن فيه - كما قلنا - من التجربة القليلة والاختبار الشخصي الضئيل. ويجيء علماء النفس بعد ذلك ليقولوا عن الشعراء أو العباقرة إن من خصائصهم الكذب ومن طبيعتهم المبالغة في التصوير والتهويل عند سرد الوقائع. ولا يأتي هذا من المرض النفسي في الحقيقة - كما نرى نحن في تفسيرنا لهذه الظاهرة - وإنما يأتي من تلك الظاهرة التي أتينا عليها، وهي أن الأديب بحكم وجوده الخالي من الأحداث الجسام والأفعال العظام قد عوض نفسه بما يحكيه من صنوف الحكايات التي تري كبرياءه وتريح غروره.
فالأديب إذا - أو الشاعر - بحكم ما يعانيه في الحياة من انزواء وبطبيعة ما تلزمه به أصول معيشته من الفردية والبقاء المستور قد امتلأت نفسه بحب الذكريات التي مرت به على الرغم مما فيها من هزال وما تتصف به من قلة الشأن. بينما قد لا يذكر سواه، من الناس الذين خاضوا في تجاربه هذه مئات المرات، شيئاً مر بهم لأنهم اعتادوا في كل الأحوال وفرة وكثرة وسمنة في كل الجوانب، ولو أنه صادف كل ما يصادفه الماجن