العابث في أيامه الخوالي من متعة وانبساط في ملاقاة الغيد الأماليد وعشرة الغواني الملاح لما أحس في هذه الحركات بروزاً ولا وجد فيها غرابة ولا شعر بأنها موضوع للكلام والحديث
ولكن من الضروري في هذا المقام أن ننبه إلى شيء قد يفوت القارئ، وهو أن هذه الرغبة في الكذب وذلك الجنوح إلى التهويل والمبالغة لا يكونان عند الناقد الواعي محل شك وسوء ظن، لأن التجربة التي مر بها الشاعر كما وقعت في نفسه ومثلما ألقيت في روعه لا تختلف كثيراً عما يصوره لنا في وثائقه الأدبية. والصدق كل الصدق في الاتجاه الأدبي إنما يأتي من الوفاء عند تصوير الإحساس وعند محاولة الكشف عن سذاجته الأصلية بإزاء أحداث الوجود، فالشاعر لا يكذب عندما يغالي في سرد القصص ورواية التاريخ مهما خرج عن الحدود الحرفية لما جريات الأمور بمجرد العود إلى تذكرها من جديد، بل يصف وصفاً ممتازاً لطبيعته النفسية عند إسقاطه لمشاعره الخاصة على الواقع الخارجي الكالح. ونحن - من وجهة النظر النقدية الخالصة - لا نطالب الشاعر بأن يكون راوية أو مؤرخاً بقدر ما نطالبه بأن يكون مصوراً يأخذ بقواعد الفن حسبما تنزل الأشياء من نفسه وعلى نحو ما تصادف المظاهر من هواه
وننتهي من هذا كله إلى أن الفنان حينما يكذب يكون مضطراً تحت تأثير الفراغ الذي يجده في معاشه والتفاهة التي يلقاها طيلة أيامه والشذوذ الذي يتسم بن مزاجه. وإذا شئنا أن نتحرى الدقة في هذا الوصف فعلينا بأن نلاحظ مثلا كيف يفعل الشاعر؛ إذ يضطر بدافع من رغبة الناس في تصيد الملامح الخاصة بالعبقرية بين الأفراد، إلى أن يبدو في ملامح شاذة وإلى أن يظهر في الخارج ببعض الحركات والشيات التي تعبر عن جوه الداخلي ومما لا شك فيه أن دماغ الشاعر أو الأديب محتوية على الكثير مما يثبت نبوغه وجدارته، ولكن هذا النبوغ وهذه الجدارة لا يظهران للملأ على لافتة من اللافتات التي تعلن عما يكمن في ذاته وعما يختفي بين جوانحه، فيتجه بعضهم إلى التدخين مثلاً وقت الكتابة والتأليف حتى يشعر بالتكبير على هيئة الغيوم التي تتلبد في الهواء من حوله وحتى يشعر في عملية أخذ النفس ورد السيجارة - من حين إلى حين - بحركة تجسم عمله الذهني ومجهوده العقلي وتمثل اجتهاده في تصيد الأفكار ونظم الكلام.