انتهينا في حديثنا السالف إلى أن العلم قد استعبدته الأغراض في أكثر مراحل حياته، فعاش في خدمة الإنسان يحقق مطالب حياته العملية، أو يستجيب لنداء عقيدته الدينية، وأقام على هذا الاستعباد طول عمره، إذا استثنيت مرحلتين من حياته تحرر فيهما من ذل الأغراض، هما عهد اليونان، والفترة الأخيرة من عصرنا الحديث. وقد أشرنا فيما أسلفنا إلى الروابط التي أخذ ينشئها المحدثون من العلماء بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، بتوحيدهم الغاية التي ينتهي إليها كل منهما، فكان علينا إذا رغبنا في الحديث عن صلة العلم بالكمال الإنساني أن نتناوله عند (بيكون) ابن العلم الحديث، ورب الدعوة إلى تسخيره لصالح الإنسان.
٣ - الكمال عند بيكون
تمرد رجال النهضة على العصور الوسطى، وأقبلوا يحملون - فيما حملوا - معاول الإصلاح الديني، وحطموا بها الكنيسة وسلطانها الذي هيمنت به على قلوب الناس وعقولهم أجيالاً طوالاً وسار في موكبهم حواريو العلم الطبيعي يتقدمهم رجال الفلك، من كورنيكوس وتيخوبراهي وغاليلو وكبلر، وشنوا الغارة على علم الأقدمين ومكنتهم الآلات التي اخترعوها من الكشف عن كثير من أخطائهم، وبذلك هتكوا عصمتهم، وحطموا قداستهم وأعلنوهم لطلاب العلم ناساً كسائر الناس، ومهدت هذه الحركات لظهور (بيكون) في أواخر القرن السادس عشر، فتقدم بعقله الواسع وقلمه السيال، للانضمام إلى موكب المحاربين، وساهم بأوفر نصيب في تحطيم الفلسفة الجدلية التي شاعت عند المدرسيين، وهدم القياس الذي استعاروه عن أرسطو ليحل مكانه منطقاً قائماً على الاستقراء، فوضع بذلك أساس المنهج التجريبي، وبدأ العلم في عصره الحديث على يديه، ورسم للباحث منهجه وحدد له غايته، فدعا إلى تطهير العقل من الأوهام التي تعرقل طلاقته، ونادى بالإكثار من جمع