المشاهدات وإعداد تاريخ لكل منها، وتصنيفها توطئة لمقارنتها بعضها ببعض، واستنباط العلل الكامنة وراءها، وتسخير النتائج التي يهتدي إليها العلماء لخدمة المجتمع، وتوفير أسباب الكمال لأفراده، فربط بذلك بين العلم والكمال الإنساني، وصور هذه النتيجة قي كتاب صادف عند الكثيرين من المؤرخين مديحاً ملحوظاً ذلك هو الذي صور فيه مجتمعاً مثالياً - على نمط جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي - وتوافرت في مجتمعه أسباب الكمال، وتهيأت لأفراده ألوان النعيم؛ وأظهر ما في هذا المجتمع المثالي مما يعنينا في مقالنا (بيت سليمان) وهو يشبه المؤسسات العلمية التي تقام في عصرنا الحاضر للعمل على تقدم العلم وإنهاضه، وقد حدد الغرض الذي يرمي إليه هذا البيت بالكشف عن أسباب الظواهر والاهتداء إلى علل الأشياء، والتمكين لسلطان الإنسان حتى يتيسر له القيام بكل عمل ممكن؛ وتحقيقاً لهذه الغاية أنشئت المعامل لإجراء التجارب في مختلف فروع العلم من طب وطبيعة وصناعة وزراعة. وأقيمت المراصد لمراقبة الظواهر الجوية، وحفرت البرك والبحيرات لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية. . . ولما كان بيكون شديد العناية بالإكثار من جمع المشاهدات والإسراف في عمل التجارب رغبة في تمكين البحث، وعدم التسرع في استنباط القوانين العامة من الجزئيات القليلة، فقد رأى أن يوفد بيت سليمان فئة من العلماء بين الحين والحين، يجوبون البلاد الأجنبية، ويرتادون الآفاق النائية في طلب المشاهدات، وجمع الكتب وكتابة التقارير عما يصادفهم من غريب الظواهر، وبذلك ترقى العلوم ويتيسر لأهلها أن يفهموا الطبيعة على وجهها الصحيح، لا اقتصاراً على فهمها، بل توطئة لبسط سلطانهم على ظواهرها، واستغلال سيادتهم لها، في الانتفاع بها والإفادة من مواردها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وبذلك يرقى المجتمع وينهض أفراده. وقد جره هذا التصور إلى أن يكل حكم المجتمعات إلى العلماء والفلاسفة الذين لا يقنعون بالاطلاع على ما تحويه بطون الكتب، وإنما يولون جهودهم شطر الطبيعة ليجمعوا منها المشاهدات توطئة لاستغلال فهمهم لها في ترقية المجتمع والعمل على تطوره إلى الكمال
تلك صورة مصغرة لهذا المجتمع المثالي الذي يتحقق فيه الكمال الإنساني فيما بدا لبيكون. ولم يكن هذا التصور غريباً على العصر الذي دوت فيه هذه الصيحة، فقد اتجهت فيه أنظار أهل العلم والأدب والفن إلى الطبيعة، وراح كل يعبر عنها بطريقته وفي حدود