للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مصرع هرة]

للأستاذ عبد الحميد العبادي

كانت لنا هرة لطيفة، ظريفة، خفيفة الجسم، مرهفة الحس، طوافة بالليل، جوالة بالنهار؛ وكان أولادي يحبونها هي وصغارها الثلاث، ويَحْبونها بالفضل من طعامهم، والكثير من عبثهم؛ وعلى مر الأيام نشأت بين صغار الأنس وصغار الحيوان ألفة جعلت كلا يحتمل عبث كل، ويجد في ذلك لذة ومتاعاً.

وشاء حر القاهرة الذي اتقدت جذوته في أوائل الشهر المنصرم أن ينتجع أولادي بعض السواحل فراراً من وقدة الحر، وابتراداً بهواء البحر ومائه؛ وشاءت ظروفي الخاصة أن أبقى في القاهرة وحيداً إلا من خادم يرعى شؤوني إذا حضرت، ويحرس المنزل إذا غبت. ففقدت الهرة وصغارها بتبدل الحال ما اعتدنه من الطعام إلا قليلاً يمسك الرمق ويستبقي الحياة.

وكأن الهرة استشعرت شيئاً من الأنفة والأباء، فلن ترض بالدون، ولم تصبر على الهون، وانطلقت تضرب في الأرض تبتغي سعة الرزق لنفسها ولصغارها، فكانت تعود من حين لأخر مطبقة فمها على مسلاخ أرنب، أو مشاش عظم، أو عصفور اقتنصته في بعض الحدائق، فتجمع صغارها على ما وفقت له من الرزق، فيكون لهن منه عوض عما فقدن من الزاد.

وأحبت الهرة أن تعود صغارها السعي معها في كسب القوت، فكانت تبرز خارج الدار وتناديهن فيتسارعن إليها، متواثبات، سائلات الأذناب، مؤللات الآذان، محدقات العيون، فيجسن جميعاً خلال الحديقة، فلا يعدمن صرصارا أو جرادة يتبلغن بها بعد أن يلعبن بها طويلاً.

ودرجت الأيام على تلك الحال، وكأن القطط استطبن حياة السعي، وذقن حلاوة الرزق المجلوب بالجد، فعدن لا يأبهن لما كنت أرفدهن به من وقت لآخر من كسرة خبز، أو نغبة لبن، أو عرق لحم ينهسنه، أو عظمة يتعرقنها

غير أن صروف الأيام لا ينجو من كيدها إنسان ولا حيوان، ولا يسلم من آفاتها من يمشي على اثنتين، وما يدب على أربع. فقد كنت ذات يوم جالساً في منزلي وقت الظهيرة، وكنت

<<  <  ج:
ص:  >  >>