عقد الأستاذ عباس فضلي فصلا طويلا تحت هذا العنوان، تكلم فيه عن غموض الشعر وأسبابه وقيمته، وانتهى في حزم إلى أننا يجب أن نرفض كل شعر غامض لأن الغموض والجمال لا يجتمعان في صعيد واحد، ويظهر أن الأستاذ إنما يريد هذا النوع من الغموض، الذي يتجلل من حنادس الليل بحجب وأستار، فإذا أعملنا فيه عقولنا وأجهدناها ما وسعنا الأعمال والاجهاد، لم نتبين شيئا غير الظلام الموحش، والحلوكة الدامسة، وليس هذا هو الغموض الفني أو الشعري الذي يجعله الدكتور طه حسين سببا من أسباب جمال الشعر، وإنما يريد الدكتور - فيما أفهم - غموضا آخر جميلا، لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه، وتهش له، وتجد فيه لذة ومتاعا كبيراً، وهو أشبه ما يكون بالظلال لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، ومهما كثر هذا الغموض وفاض فلن يحول بيننا وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية وما يغمرها من سحر وإبداع، بل ربما كان هو مثار إعجابنا وتقديرنا، ومبعث سرورنا وغبطتنا، هو غموض حقا، ولكنه غموض ذو بهجة، تقر به النفس، ويسر به الذهن، وما أشبهه بهذه السدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، فلا يزيدها إلا سحراً وجمالا، ولا يزيدنا إلا إعجابا واستحسانا.
وهذا الغموض الشعري له أسباب مختلفة، ولعل كثيراً منها يرجع إلى فقر اللغة وقصورها في الإفصاح عن عواطف الشعراء النفسية، وميولهم، ورغباتهم، فكثيرا ما تعجز اللغة عن أداء المعاني التي تضطرب في صدورهم، وحتى هذه الألفاظ التي ظفرت بالإفصاح عن بعض هذه المعاني، لم توفق في القيام بمهمتها الشاقة توفيقا كبيرا، وذلك لأن المعاني تفصح عنها لا تخضع لشيء خاص محدود يعرفه الجميع، فالمعاني ليست مادية محسوسة، وإنما الألفاظ هي المحدودة بحروف معدودة وفراغ مخصوص، ومما يزيد الموضوع خطرا، أن كل كلمة من هذه الكلمات التي يستعملها الشعراء تعبر عند كل واحد منهم عن حالة مخصوصة لا يشركه معه فيها أحد مشاركة تامة، وما هذه الكلمات إلا حيل وتدابير يستعملونها للإفصاح عن هذه المعاني التي تزفر بها نفوسهم، ولا شك في أن بها كثير من التسامح، كما أن بها كثيرا من الإبهام والغموض، ويخطئ كثيرا من النقاد فيظنون أن لا خلاف بين الحياتين العقلية والنفسية، الواقع أن هناك اختلافا كثيرا، فالحياة العقلية قد درست واستطاع العلماء أن يعرفوا مقدماتها وطرق استدلالها، فكان علم المنطق، أما الحياة