النفسية فلا تزال على أشد ما تكون إبهاما وغموضا، ولهذا كان تحليل الحادثة الشعرية إلى عناصرها، من إحساس، وشعور، وخيال، وعاطفة منشأ غموض كثير ينتشر بين أجزاء القصيدة الواحدة، ومن هنا كان الخلاف كثيرا ما يقوم بين النقاد في فهم القطع الشعرية المختلفة، لأنهم لا يعتمدون على مبدأ معروف للمناقشة والمقارنة، فهم لا يستنيرون بتحليل واضح سابق مشابه للحوادث الشعرية التي يتناقشون فيها، وعلماء النفس أنفسهم يقولون أن الشعور مصدر الإبهام، فما بالنا بالحياة النفسية كلها وما تنطوي عليه من رغبات وعواطف، وميول وشهوات، لا سبيل إلى حدها وحصرها، وإذا كانت هذه هي الحياة النفسية وهي على أشد ما تكون التواء وتعقدا أفلا نسمح لما يخرج منها أن يحمل شيئا من آثار إبهامها ما دام جميلا نشغف به، ونعجب بحسنه وجماله
والواقع أن الأمر لا يحتاج منا إلى إصدار حكم ليفارق الشعر الغموض ويقاطعه، بل إن ذلك يرجع كما رأينا إلى الحياة النفسية ذاتها، وسواء أرضينا أم غضبنا فيستمر الغموض مسيطرا على الشعر حتى تنضج الحياة النفسية، ولا سبيل إلى هذا الإيضاح الآن وتاريخ الشعر يؤيد أن هذا الغموض لازم الشعر منذ نشأته الأولى، فقد كان الإنسان - قبل أن يتحول محيط عواطفه إلى جليد تسطع عليه أشعة الأفكار والألفاظ - يعبر عن هذه الحياة الصاخبة في نفسه بأصوات مبهمة، ولما أخذت الأفكار والألفاظ تقوم بتجسيم هذا التعبير رأى الشاعر الأول إنها عاجزة عن القيام بمهمتها قياما تاما فأضاف إليها الوزن الشعري عله يكمل بنغماته المعنى الذي يريد الإفصاح عنه، وللموسيقى الشعرية شأن كبير في الشعر، وذلك لأنها إذا ارتقت إلى أسمى درجاتها، استطاعت أن تؤثر في نفوس السامعين بدون حاجة إلى فهم الأفكار التي تحملها، فلا يكادون يسمعونها حتى يجدوا لذة جميلة لا يستطيعون أن يرجعوها إلى مصدر سوى هذه النغمات السحرية التي يبثها الشاعر في آثاره الشعرية
وغموض الشعر لا يأتي دائما من الشاعر وشعره بل كثيرا ما يأتي من القارئ وقراءته، فالناس يختلفون في فهم القصيدة بل في فهم البيت الواحد، ولا سبيل إلى كبح جماح هذا الخلاف، لأنه يرجع إلى حوادث سيكولوجية، فأن كل صورة في الشعر أو فكرة فيه حين ينقلها من عالمها الخارجي إلى عالمنا النفسي الداخلي تصادف مناطق من الشعور تختلف