يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نؤاس والعباس، ومخارق وإسحاق، ومطيع وحماد. . .
يا منزل القواد والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأنقياء، والمغنين والشعراء، والمجان والظرفاء. . .
يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول. . . يا دنيا فيها من كل شيء
الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام
يا بلداً أحببته قبل أن أراه، وأحببته بعد ما رأيته. . .
لقد عشت فيك زماناً مر كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلا لذع الذكرى
وهل تخلف الأحلام يا بلد إلا الأسى والآلام؟
ولكني على ذلك راضٍ راضْ. . . فالوداع يا بغداد واسلمي على الزمان!
ودعتها والسيارة تشتد بي إلى المحطة تسلك إليها الشوارع ذات بهجة وجمال، شبهتها (والمحطة غايتها) بليالي الحب كلها أنس وحلاوة، ولكن نهايتها وحشة الوحدة ومرارة الفراق. وعانيت الوداع، فأيقنت أني مفارق بغداد عما قليل، وأني سأتلفت فلا أرى رياضها ولا أرباضها، ولا أبصر دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول (وإن من الأقوال ما لا تبلي جدته ولا يمضي زمانه):
أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار