لما قامت الدعوة الفاطمية بمصر، وامتد سلطان الشيعة السياسي بين الغرب وأقاصي الشام، عني الفاطميون أشد العناية بالمسائل المذهبية، وعملوا على بث العقائد والمبادئ الشيعية بكل الوسائل، واتخذت هذه الدعاية صفة رسمية في مجالس الحكمة الشهيرة التي كانت تنظم بادئ بدء القصر الفاطمي وفي الجامع الأزهر تحت رعاية الخليفة نفسه، ويقوم بتنظيمها قاضي القضاة أو داعي الدعاة؛ ثم أنشئت لها بعد ذل جامعة رسمية خاصة هي دار الحكمة الشهيرة التي أنشأها الحاكم بأمر الله سنة ٣٩٥هـ (١٠٠٥م)، ولبثت عصراً تقوم ببث الدعوة الفاطمية السرية في صور وأساليب ما زال يحيط بها الخفاء والغموض. ولقد تقلبت دعوة الشيعة قبل ظفرها السياسي الحاسم على يد الخلفاء الفاطميين في أدوار ومراحل مختلفة، وتشعبت مذاهبها وإمامتها، فظهرت الدعوة الإسماعيلية أولاً في ثوب دعوة دينية سرية؛ ثم كانت فورة القرامطة التي قامت عليها وانتسبت إليها؛ ثم كان ظفر الفاطميين، وقيام الخلافة الفاطمية، فاتخذت الدعوة الشيعية بذلك لونها السياسي الواضح إلى جانب لونها الديني، وأدرك الفاطميون ما للدعاية الدينية من أثر في توطيد الملك السياسي، فعملوا على بث مبادئهم وتعاليمهم بقوة وذكاء، ووضعوا لذلك نظماً ومراتب سرية، كانت دار الحكمة القاهرية مجمعها ومبعث وحيها
وقد اتخذت هذه الدعوة في عصر الحاكم بأمر الله لوناً من الخفاء والعنف، لم تتخذه في أي عصر آخر، يسبغه عليها خفاء الحاكم وعنفه، وغريب تصرفاته وأهوائه. وكان الحاكم بأمر الله شخصية جريئة مدهشة برغم اضطرابها وتناقضها، ترتفع أحياناً في سماء التفكير حتى لتزعم السمو فوق البشر وتهيم في دعوى الألوهية؛ وتنحط في تصرفاتها إلى درك الجنون. وكان ذلك الذهن الهائم يشغف بنظريات الخفاء والعالم الآخر، ويهيم في غمر المباحث الروحية والفلسفية، ويفيض من خفائه وشذوذه على جماعة من الدعاة الأذكياء الذين يحشدهم الحاكم حوله لينظموا معه وسائل الدعوة المذهبية السرية، وليحملوا دونه تبعة ما تعرض من الأقوال والنظريات الجريئة الممعنة في الإلحاد والهدم. ومن الحقائق