إنني تَعِبة الليلة، وهناك شئ - لست أدري على وجه التحقيق ما هو. ولعله هزيم الريح أو دوي المطر في جنح الدجى، أو لعله تصايح الطير على الأيك من كل جانب في الخارج
هناك شيء، أجد لشجوه أمثالاً تستخرج وجدي، وتبعث أساي من بعد هجومه، وتعيد إلى الماضي السحيق وأحزانه وآلامه
فأشعر، وأنا أجلس هنا متأملة مفكرة، أن يد شهر مدبر، من شهور يونيه التي خلت ولم يبق من عهدها السعيد إلا التذكر، تمتد الآن إلى أوتار قلبي المرتخية، وتشدّها، وتصلح وحدة أوزانها، وتحكم انسجام اهتزازاتها
إنني تعبة الليلة، وإني لأفتقدك، وأحن إليك يا حبيّ، وأشتاقك شوقاً أكتمه جهدي. . . ومن خلال الدموع أحسب أنني أراك، وكأنك تمضي اليوم فقط مع الذاهبين إلى ربهم
مع أن الزمان قد مدّ خطاه الواسعة في مهامه مترامية، وتجاوز عهوداً عديدة وأعواماً مديدة مذ فارقتني، وكأني أستشعر الانفراد والوحشة من جديد. . . أنا التي كثيراً ما أحيا في عزلة وحدي، وهاهي ذي أوتار قلبي المشدودة تدعو الهديل
ولكن هيهات أن يجيبها منوط بأطراف الجناح رميم. . . هيهات أن يطربها باللحن القديم الحلو الرنان
إنني تعبة، وذلك الحزن العصيّ الذي كرّت عليه الأعوام، يثور دفعة واحدة على غير انتظار، وإن ثورته الهائلة لتحدث فيه ثلمة واسعة تتدافع منها الآلام، وتنحدر بقوة إلى قاع نفسي كما يتحدر بغتة تيار نهر هائج من ثغرة في حواجزه وينفجر كطوفان متدافع لا تقوى عليه السدود، فيجرف في طريقه كل شئ، ويكتسح في لجه الزبد، وثبجه المرغي بقايا سفينة محطمة لها شراع ناصع البياض، وإن تلك اليد لتهوى ثقيلة على أوتار قلبي المشدودة وتحركها بريشتها في عنف لتكتسح منه الأنغام
ولكن يخيل إلى أن أوتار عواطفي التي تلاشى رنينها مع الزمان عادت تطنطن وتدوّي بعد ذلك الأمد الطويل بفعل تلك اللمسات العنيفة التي تحاول أن تجدد وقع اللمسات الأولى الرقيقة، بيد أن النغمات التي تفر من تحت الأنامل المحركة الأوتار لا ترجّع غير صوت