للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المتنبي]

للأستاذ راجي الراعي

تمر الأجيال بالمتنبي فلا تجسر أن تلقي عليه ستار النسيان وتتابع السير في طريقها فيستوقفها لتنشد الشعر؛ شعره الذي نظمه كله ليرويه له الدهر فتروى له بعضه والموتى من حوله واقفون إجلالاً والخلود يلقي ظلاله وينصت فخوراً طروباً. . .

وليس من السهل أن تنطفئ شعلة أضرمها المتنبي. ومن يزر ضريحه يشهد فوقه كل يوم صراعاً دامياً بين الموت والخلود يقع بعده الموت في كل مرة قتيلاً يتشحط في دمه. . . أن الموت يخاف الشاعر العبقري ويحسب له حساب خلوده. وهو إذا أتاه أتاه مكرهاً قياماً بوظيفته التي لا تعرف الإقالة والاستقالة، وكل ما يستطيعه الموت هو أن يوقف حركة القلب الواحد الخفاق في صدر الشاعر العظيم. أما القلوب الأخرى التي يحملها فتظل على الرغم من الموت والفناء حية نابضة في صدور قصائده. . .

هاهو ذا المتنبي الذي قال الشعر لينشده الدهر، يقف أمامي في ساحة الموت في نبوته التي لم تشهده نبياً أتحدث إليه أو أتحدث عنه كأن ابن أبي جهل لم يضربه تلك الضربة التي حسبها قاضية ولم تقض له أمراً. . . وإذا كنت قد فكرت في المتنبي وناديته في عالم الأرواح لأراه واحييه وأقول كلمتي فيه والناس لا يحتفلون بذكراه التي مضى يومها، فذاك لأني لا أحب أن أتقيد بما يتقيد به الناس وهم يحتفلون بموتاهم ويحددون لاحتفالاتهم البرامج والمواعيد. فالميت الحي الكبير ماثل أمامي في كل حين أناجيه ويناجيني. وليس للمتنبي يوم خاص لذكراه ثم تطوى صفحته، إن له علينا حقه الكبير كلما أشرقت هذه الشمس وغابت بالأشعة من شاعريته. ومن أخلص لمن أحبه وقد هيل عليه التراب دفعه الحب والوفاء إلى رفع الغطاء عن ضريحه بين الحين والحين ليرى وجهه ويشعره أن يد الموت قد قصرت عنه. . .

وبعد فمن هو المتنبي؟ من يكون هذا الجبار الذي تهيبه الردى فارتد عنه؟ إنه يطربنا، فما هو هذا الذي يطربنا به؟ وهل كل ما فيه يطرب؟ وكيف رفع بناءه؟ وهل من صدوع في ذلك البناء؟ وما هي وأين هي؟ ما هي نقطة الاحتراق التي التقت فيها أشعته؟ قال بعضهم إنه أشعر الشعراء؛ ولكنني لا أذهب إلى هذا الحد، فلا محل لأفعل التفضيل. كتاب الشعر

<<  <  ج:
ص:  >  >>