للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ودولة الشعر لا تعرف لها ملكاً واحداً؛ وإنما هي عروش وإمارات متفرقة. وصولجان الشعر أكبر وأرفع من أن تقبض عليه يد واحدة ولو كانت يد هوميروس. . .

لكل شاعر لونه وصوره ومجاله؛ والألوان والصور والمجالات كثيرة، فما هو مجال المتنبي؟

هو شاعر القوة والطموح والكبرياء، يطاعن خيلاً من فوارسها الدهر، ويقدم إقدام الأتي كأن له سوى مهجته، ويعلن أنه (إذا قال شعراً أصبح الدهر منشدا) وأن (الخيل والليل والبيداء تعرفه والسيف والرمح والبيداء والقلم) ويجري القسمة على هواه (فله النفوس وللطير اللحوم وللوحش العظام وللخيالة السلب) وليته أبقى للخيالة غير هذا الدور ولم يدخل السلب في هذه القسمة التي تخيلتها البطولة.

هو سيد الأولمب وشقيق المشتري ورب البادية والسيف والقلم. هو القوة بكل ما فيها؛ ولكنها قوة لم تتعد عالم خياله. أرته فيما أرته النبوة؛ فلما عاد من تحليقه إلى الأرض والتفت حوله لم يجد المحراب ولا المصلين. . نبي وهم وخيال؛ غير أن هذا الطموح إلى ذروة الذرى نفخ في شعره الروح التي نهتز لها؛ ولولاها لما استطاع أن يأتينا بروائعه. . . إن الكبرياء شيء لا غنى عنه للفنان الكبير، فهو يقيم على قاعدتها تماثيله الفنية. .

هو الشاعر الذي يدور في شعره حول كلمة هي (أنا)، وقد تمركزت في رأسه وتزعمت، وللرأس زعامته، فدارت حولها الصور النفسية الأخرى. ولو أن المتنبي نظر إلى العظمة دون أن ينظر إلى نفسه لكان شعره أبلغ أثراً في النفوس، فكلمة (أنا) وإن نبعت من أعماق طبيعة الإنسان لا يلتف حولها الخلق، وهي تشير إلى المتكلم، التفافهم حول العظمة العامة الشاملة. . . إن تغنيك بعظمتك شيء وتغنيك بالعظمة شيء آخر. . وقد خيل إلى البعض إن المتنبي نسي تغنيه بنفسه عندما راح ينظم القصائد لسيف الدولة وضد الدولة وابن العميد وكافور، ويرفعهم بمدائحه إلى الأوج طمعاً في المال الذي كانوا يغدقونه عليه، وتسائلوا عن عظمته وهو بين أيديهم. والحق أن المتنبي أنفق الكثير من عبقريته في هذه السوق الملكية الرابحة بدلاً من أن يقول الشعر للشعر ويقيم هياكله للفن وروحانياته. غير أن من نظر إلى البيئة التي نشأ فيها والى العقيدة العربية وسلطان الملوك في عهده وقدرهم قدر الشعراء لا يرى في مدائحه لملوكه ما يغض من عظمته التي كانت تظل مكانها لو أنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>