المتنبي شاعر الخيال قبل أن يكون شاعر العاطفة؛ فخياله أكبر من قلبه. إن بدائعه صور تصيبك بدوار الإعجاب، ولكنك لا تسمع فيها صراخ القلب ونحيبه. ولعل طموحه وتعاظمه شغلاه عن الدمع فلم يأت به غزيراً محرقاً، وعن دم القلب الجريح فلم يره إلا على شفار السيوف، وحولاه عن المرأة مع مالها من سلطان وصدر أرضع الشعراء في كل زمان ومكان فلم يقف عندها طويلاً، في حين إن أبياته فيها حين كانت تستوقفه في سيره إلى العظمة لا تنحط عن سائر ديوانه، بل هي أشد ما فيه روعة وقد فاض بها القلب. وهل أجمل من قوله:
تناهى سكون الجسن من حركاتها
وقوله:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
وقوله:
نرى عظما بالبين والصد أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
ومن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
ليت المتنبي وقف طويلاً عند هذا الوتر من قيثارته! كان لامرئ القيس عنيزة، ولطرفة هريرة، ولمجنون ليلى ليلاه، ولجميل بثينة، ولأبنأبي ربيعه الثريا، وللبحتري علوة. أما المتنبي فقد كان عالياً على الحسناء، (علوته) العلياء. . .
ولا نرى المتنبي يشرب الكأس التي نعرفها للشاعر وخمرته وانما كانت كأسه كأساً صب فيها بدل الخمرة مجداً سكر به فلم يسأل عن الخمار والخمرة ولم يقل فيها وحولها شعراً لا سراً ولا جهراً، وكم من شاعر استعان بها لتثير ما كمن في صدره وتطلقه حمماً ومعجزات. كان شاعر الخمرة التي لا كأس لها، شاعر العروش التي لم يشأ أن يجلس عليها المرأة وهي التي تقيمها. . .
ليس المتنبي مع إبداعه بالشاعر الوجداني الروحاني؛ فاعتداده بنفسه ومزاجه وبيئته، وحبه