للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للمال، وبريق سيوفه وهزيم رعوده وصهيل خيوله وروعة أوتاره أقصته عن تلك الأصوات والهمسات التي تأتي من الأعماق فلم يسمعها؛ فهو يمدح ويهجو ويرثي ويصف ويفخر ويتغزل ويطلق الحكم، ولكنك لا تحس في ذلك كله تلك الخلجات والرعشات التي لا يعرفها غير الإحساس المرهف الدقيق الصارخ القاطر دماً ودمعاً، القائم بين الحيرة والاضطراب والذهول والوجد. . كان شاعر الحس والمادة لا شاعر الروح والروحانية. . وكان شاعر الحكمة التي تكاد تحتل قمة شاعريته، وكأنه شعر بذلك فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.

إن الحكم والأمثال التي أطلقها هي الدعامة الكبرى التي قامت عليها شهرته فقد تداولها الناس وحفظوها لأنها تعبر عما تنطوي عليه صدورهم، وهي حكم وأمثال معروفة دونت قبله بأجيال فلا إبداع فيها، ولكنه عرف كيف يصوغها في قالب جديد.

إن في شعر المتنبي روعة الصور التي يجيش بها الخيال الخلاق وهو اليد التي تشير إلى العبقرية. وقول القائلين أنه سرق بعض شعره قول فيه الكثير من الجور والتعسف؛ فشاعر يأتيك بقوله:

وتكاد الظبي لما عودوها ... تنتظي نفسها إلى الأعناق

وقوله:

كأنها الشمس يعي كف قابضة=شعاعها ويراه الطرف مقترباً

وقوله:

وخص تثبت الأبصار فيه=كن عليه من حدق نطاقاً لا تنسب إليه السرقة في الشعر. ويكفي أن يأتي الشاعر ببيت واحد يدل على الإبداع حتى يقال إن فيه منجماً من ذهب. .

على إن كل ما قذفت به أرحام المتنبي ليس بالرائع العجيب. فبينما تسمعه يقول:

أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا

إذا بك تقع على قوله:

جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل

وقوله:

هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا

<<  <  ج:
ص:  >  >>