حدث غير مرة في تاريخ العالم أن تصدى رجال الدين أو رجال العلم للسياسة ولم يكونوا في ذلك مختارين، بل كانت الظروف تدفعهم إلى موقف يجدون فيه أنفسهم مسئولين عن التدخل في أمر السياسة. فلا يجدون مفراً من أن يضطلعوا بحملهم، حدث أن بابا (روما) وجد نفسه حيال حكومة غالبة في إيطاليا من قوم أجانب عن أهلها جنساً ولغة، وذلك عندما استولى القوط على إيطاليا ونزعوها من سائر الدولة الرومانية. وكان البابا بغير شك زعيم القوم في أمور الدين، فكان الغالبون من القوط يلجأون إليه فيما يمس قومه لكي يلتمسوا عنده رضا أهل البلاد. وكان أهل البلاد في الوقت عينه يتطلعون إليه لكي يقف على رأسهم ويحفظ عليهم كيانهم وتقاليدهم، ويتوسط عند أهل الدولة فيما يمس مصالحهم وأمور دنياهم. فكان لا غنى للبابا عن النظر في أمور الدولة، ولا مندوحة له عن التدخل في أمور السياسة. وكان هذا هو شأنه عندما ذهبت دولة القوط وحكمت إيطاليا دولة اللمبارديين، فان البابا وقف الموقف عينه، ووجد نفسه بطبيعة الظروف القاهرة ممثل الإيطاليين وزعيمهم والناطق بلسانهم إذا ما احتاج الأمر إلى من ينطق بلسان أهل البلاد في وجه الدولة اللمباردية الحاكمة. وكذلك كان الحال عند ما جاء الروم إلى مصر وفتحوها وأقاموا بها الحكم على المصريين، فان بطريق المصريين كان يحكم مركزه الديني زعيماً في قومه في أمور الدين، فلما جاء الروم صار ذلك الزعيم الديني مضطراً إلى أن يمثل قومه عند الحكام وينطق بلسانهم ويتصدى لأمورهم، حتى لقد أصبح بطريق المصريين في آخر الأمر هو الممثل القومي للمصريين؛ وكم وقف البطارقة على رأس الشعب المصري في وجه الحكم الأجنبي الروماني، ومن هؤلاء البطريق الأكبر بنيامين الذي ناله من التصدي لأمور السياسة أكبر الأذى، وتحمل النفي والخوف، وتحمل أتباعه من رجال الدين ألوان العذاب في سبيل استقلال مصر كما كانوا يفهمونه.
إذن لم يكن لمصر أن تخرج عن هذه السنة الطبيعية، فإنها كانت في القرن الثامن عشر تحكمها حكومة على رأسها الباشا ممثل السلطان التركي، ويعاونه الأمراء المصريون الذين