طال الجدل بين الأستاذ عبد المنعم خلاف وبيني حول هاتين النقطتين منذ أصدرت كتابي (التصوير الفني في القرآن) ولم يكن بد من أن يطول، فالموضوع في ذاته خصب يحتمل الجدل الطويل، والأمر بيني وبين الصديق في هذا الجدل ليس فكرة عارضة ولا خاطرة سريعة، وإنما هما نظريتان مختلفتان للعقيدة بل للحياة. فما سجلته في كتابي وما ناقشت به الأستاذ عبد المنعم هو خلاصة عقيدتي ورأيي وفلسفتي الخاصة المبنية على كل تجاربي النفسية والذهنية في رحلتي على هذه الأرض. وما كتبه في مناقشتي هو امتداد لآرائه في كل ما قرأت له. وبخاصة في كتابه القيم (أومن بالإنسان)، ذلك الذي أقعدني المرض أربعة أشهر عن أن أفرغ له يستحق من النقد والتنويه
وقد تشعب الجدل بنا في تفصيلات وجزيئات لا مجال لإعادة الحديث فيها بعد هذا الأمد الطويل، فأحب أن أرد المسألة إلى أصلها الواحد الكبير لتكون لدى القراء منها صورة كلية يشارك في دراستها من يشاء
المسألة في صميمها تتلخص في كلمات:
أمن الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة. وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود؟
أما أن فلا أتردد في الإجابة بالنفي على هذا السؤال، فأنا لا أثق بالذهن كل هذه الثقة، ولا أعتقد أنه ينهض وحده لحمل هذه الأمانة؛ وإنما قصاراه في هذا المجال أن يكون منفذاً واحداً من منافذ العقيدة إلى النفس الإنسانية - وليس هو مع ذلك أقرب المنافذ ولا أصدقها - وإنه لن يصل إلى شيء يذكر إلا بوحي من البداهة وهدى من البصيرة، البداهة التي تدرك الحقائق الخالدة في هذا الكون منذ النظرة الأولى وبلا فلسفة ذهنية ولا قضايا منطقية، والبصيرة التي تتصل مباشرة بالله فتدرك وجوده إدراكاً كلياً قد يعجز الذهن عنه لو تركنا له وحده المجال. ومن هنا كان (المنطق الوجداني) الذي يعتمد على هذه الحقائق الخالدة، وعلى إدراك البصيرة لها وإقرار البداهة بها، هو الطريق الذي سلكه القرآن في تقرير العقيدة الإسلامية، لأنها (عقيدة)، وكل عقيدة مقرها الضمير الإنساني الكبير لا الذهن