إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
(ذو الرمة)
بين عامي ٧٧ و١٧٧ من الهجرة عاش ذو الرمة سني حياته الأربعين، أكثر ما تراه على ظهر قلوصه يذرع الصحراء ويعتسف البيد، وهو أشعث أغبر:
صريع تنائفٍ ورفيق صرعى ... تُوفٌّوا قبل آجال الحمام
سروا حتى كأنهمو تساقوْا ... على راحاتهم جُرَع المدام
وأقل ما تراه في حمى الكوفة أو البصرة أو دمشق لا يلبث إلا ريثما ينشد مدحته، ثم يعود ممتلئ الوطاب، ليسأنف من سيره وسراه على راحلته صيدح. . . تلك التي:
تصغي إذا شدها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غرْزها تثب
وهو في كل ذلك ينشد قلبه الضائع، وينتقل من ماء إلى ماء خلف إظعان محبوبته (مي) ملتمساً وجوه الحيل إلى لقائها، والتزود من النظر إليها والاستمتاع بحديثها، في عفة واحتشام يضعانه في صف جميل وكثير وقيس بن الملوح من عشاق العرب المستعففين
وذو الرمة هو أبو الحارث غيلان بن عقبة العدوى المصري، ويلتقي حديث تلقيبه بذي الرمة، في قصص واحد، مع حديث أول لقاء بينه وبين صاحبته (مي)؛ إذ يروون في ذلك أنه مر يوما بخباء قومها فاستسقاهم. فقالت لها أمها: قومي فاسقيه. . . فجاءته الفتاة بالماء؛ وكانت على كتفه رمة - وهي قطعة من حبل - فقالت: اشرب يا ذا الرمة!
ويروون كذلك أن الحصين بن عبدة العدوى - كبير عشيرته - كان أول من لقبه بذلك حين سمعه ينشد شعره. فقال: أحسنت يا ذا الرمة؛ وكان الشاعر منذ صغره يربط بهذه الرمة جلداً فيه تعويذة ويعلقها على عاتقه حتى كبر على ذلك وشب. على أن ابن قتيبة أورد كتابه (الشعر والشعراء) أنه سمي بذلك لقوله:
لم يُبق منها أبدُ الأبيد ... غيرَ ثلاثٍ ماثلاتٍ سود
وغير موضوح القفا موتود ... فيه بقايا رُمةِ التقليد
أما صاحبته مي - بنت مقاتل المنقري - فلا يكاد الرواة يختلفون في حقيقتها، بل إن هذه