استهل عام اثنين وستين وثلاثمائة والدولة الإسلامية ببغداد تعاني جرحاً أليماً أصابها في الصميم، فقد اقتحم الروم بلاد الجزيرة وأمعنوا فيها، ودخلوا نصيبين واستباحوا وقتلوا وسبوا أهلها إلا من نجا بنفسه وهم عدد قليل
وجاء الناجون إلى بغداد ودخلوا المساجد وكسروا المنابر ومنعوا الخطباء ووقف رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يخطبون الناس. وهل هنالك أخطب من امرأة تقص على الناس مأساة ابنتها العذراء، أو طفل يحدثهم عن مذبحة أخوته الصغار؟
هنالك ثار المسلمون ومادت بغداد بثورتهم حتى أصبحت أرضها وسماؤها وجوها ونهرها وجبلها رجوما من النار
وكان عز الدولة بن بويه القائم بالأمر في خلافة المطيع لله غائبا في بالكوفة، فذهب إليه وفد من علماء المسلمين ووصفوا له الخطب الفادح والثورة الجائحة، وأن ليس للمسلمين إلا أن ينتقموا أو يموتوا، وعادوا وعاد معهم عز الدولة، ونادى بالنفير في الناس. . .
هنالك ثارت الجماهير، وتألبت العامة، وخرج كل رجل عما يملك، وخرجت كل امرأة عما تملك، حتى عن أولادها فتياناً وصبياناً، وكل من يغني غناء قل أو كثر في سبيل الله
ونزل الخليفة عن ماله كله، وأثاث بيته كله، ثم جمع ثيابه وباعها، وهدم داره وباع أنقاضها، وقدم الحديد العاصم لها ليستعين به المجاهدون في الله
وسار الجيش كالسيل المندفع، أو كالعاصفة الثائرة، وأقوى أسلحته الغضبة الحامية لما أصاب المسلمين من ذل وهوان؛ وغضبة المسلم لله شعلة الإيمان في صدره وقوة الله في يده
وكان الروم قد أقاموا مقالع الصخر ومجانيق الحديد ومقاذف اللهب على أسوار نصيبين؛ فلما جاء المسلمون قذفهم الروم بذلك كله فلم يبالوا بشيء منه. وما أسرع ما أحاطوا بالعدو وأوقعوا به وقعة قد لا يكون لها نظير في التاريخ. وأسروا أمير الجيوش وقواده وبطارقته والسفاحين من رجاله وساقوهم إلى بغداد ليقضي فيهم أمير المؤمنين بقضاء الله المنتقم الجبار