نعم يا سيدتي أذكر أني كنت وأنا صبي أمر في طريقي إلى الكتاب بمنزل المعلم يوسف النجار فأجده كل صباح جالساً تحت جداره في يمناه قدومه وفي يسراه يد فأس يسويها، أو بسخة محراث يقويها، أو ورش طنبور يجدده؛ وأصحاب هذه الأدوات من شباب القرية قيام من حوله أو قعود ينتظر كل منهم دوره ليقدم آلته أو ليسأل حاجته. وكان مظهر النجار المرح ومنظر حلقته الصاخبة يغريان صبيان الكتاب بالوقوف فيقفون ليسمعوا هذا يستحثه بالسب لأنه عوقه عن الخولي، وذلك يبادره بالعتب لأنه غشه في خشب الزحافة، وبذلك يركبه بالدعاية لأنه غبنه في ثمن النورج؛ ثم ليروا المعلم يوسف مكباً على عمله، ووجهه متهلل بالضحك، ولسانه متحرك بالمزاح، يجزي على السباب بالنكتة اللاذعة، ويحتج على العتاب بالحجة البارعة، ويرد على الدعابة بالسخرية المرة. حتى إذا انصرف الفلاحون إلى حقولهم، انصرف هو إلى دورهم، فتسأله هذه إصلاح المطرحة، وتسأله تلك تثبيت الباب؛ وهو يجيب كل طالب بابتسام، ويؤدي كل عمل باهتمام؛ لأنه يقوم لأهل القرية جميعاً بنجارة البيت والغيط مستأثرة فيأخذ من كل أسرة كيلتين في موسم القمح وكيلتين في موسم الذرة. ومن هذه الجباية السنوية يجتمع له ثروة من الحب تظهر بركتها في عيشه الرضي وباله الرخي وزيه الجميل واستبد النجار الوحيد بخير البلد وارتفع به الغنى إلى طبقة أعيانه. ونظر يوسف في أمره فلم يجد في نفسه حاجة يتمناها على الله غير زوجة تكون لعشه الحالي سكينة وزينة. والتمسها في فتيات القرية فلم يغلها، لأن الفقيرة أقل مما يبني، والغنية أكثر مما يستطيع. فأشارت عليه أمه العجوز أن يتزوج من قرية أخواله وهي على بعد كيلين من قريته؛ فعله نصيبه على فتاة رأيناها بعد زفافها عليه ودخوله بها فإذا منظرها يملأ العين ويشغل الفؤاد: جسم بض ممتلئ يكاد الثوب من ربه يلتصق به، وقوام سبط معتدل يتثنى تثني الغصن الأملد، ووجه مشرق اللون كأن على كل صفحة من صفحتيه وردة جورية، أو تفاحة أمريكية، وساعدان عبلان يحليهما، من الرسغين إلى المرفقين، أساور من الزجاج الأحمر المذهب، ويدان رخصتان تزينهما أسطار من الوشم الأخضر المنمنم وهندام مدني جريء، ظل حديث الدور والمصاطب مدة طويلة!