كتب الله للجامعة الأزهرية أن تكون مثابة علمية للعالم الإسلامي كله، تشدّ إليها الرحال من جميع أقطار الأرض لتستمد الشعوب الإسلامية من ينبوعها النمير علماً وحكمة؛ وهي مكانة تجب المحافظة عليها مهما كلفتنا من الأموال والجهود. وأنت ترى أن الأمم تتنافس في سبيل نشر ثقافتها في بقاع الأرض منفقة في هذا السبيل مالاً جماً لا يعود عليها من ورائه في الظاهر شيء غير علاقات أدبية، ولكن هذه الأمم التي تعرف كيف تستفيد الثروة والمجد.
حرص المسلمون بدافع قوي من دينهم من لدن أن قامت لهم دولة، على أن يكون قوامها العلم والحكمة، فقرب ولاة أمورهم العلماء، ومكنوهم من تقوية بناء جماعتهم، وأمدوهم بكل الوسائل الممكنة لإقامة الجامعات، وتأسيس المكتبات، وترجمة المؤلفات؛ فكان طلاب العلم يجدون بين أيديهم من المدرسين والكتب ما لا يحتاجون معه إلى المزيد. وكان مما حرص عليه أولئك المدرسون ليحفظوا للإسلام سلطانه على العقول، أن يجمعوا كلُّ ما وجهه الملاحدة والمضللون إلى العقائد من تشكيكات وشبهات، وأن ينقدوها نقداً تحليلياً لا يدع في قلوب الطلاب حاجة للمزيد على قدر ما سمحت معارفهم به من تلك الأزمان.
ونحن اليوم في القرن العشرين، وقد تطورت فيه العقلية الإنسانية بتطور المعارف، وتعاقب الحوادث، تطوراً بعيد المدى بحيث ما كان يقنعها من العلم والحكمة قبل قرنين أو ثلاثة قرون لا ينقع لها غلة اليوم. فقد حدثت فيها أحداث اجتماعية، وتعارضت فيها مصالح طائفية، وتناقضت أساليب اقتصادية، وتصادمت عقائد دينية، وتفجرت بين كلُّ هذه المجريات المتعاكسة، ينابيع لنظريات جديدة لم يكن للعالم عهد بها، وقد تناولتها الفلسفة الأوربية شرحاً ونقداً، وتصويباً ودحضاً، ولا تزال الخصومات المذهبية قائمة إلى اليوم. وقد تسربت إلينا تيارات هذه المنازعات الفكرية، وأخذت في التأثير علينا كما أثرت على سوانا، ولكن مع هذا الفارق العظيم، وهو أنها تعتبر أهم مواضيع الحوار عندهم، ومسدول عليها حجب الكتمان عندنا، ولكنها مع هذا الكتمان الشديد تعمل عملها في الخفاء فتوجه النفوس وجهات شتى، ولا تجد النفوس الحيرى ما يستقر بها على قرار علمي مكين. أفلا