يروي بعض الصوفية أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه كان إذا قفل من غزاة قال:(رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)؛ ويقولون إن الجهاد الأصغر قتال الأعداء وخوض المعامع وقراع المنايا، والجهاد الأكبر تقويم النفس وتطهيرها وإعدادها للرقابة على أعمالها والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم، وتحتمل كل ما يحمّلها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق؛ وحتى يجتمع الناس على شَرع لا تفرّقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء؛ ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة ويسعدها في معايشها.
صدق هؤلاء القائلون، فحرب العدوّ جهاد بّين لا تقعد عنه الأنفس العزيزة ولا تختلف فيه الكلمة؛ تدعو إليه العزة والكبرياء، والذود عن الأنفس والحرمات، ويصمد فيه المجاهد إلى عدو مرئي في معترك محدود. ولكن جهاد النفس، وإصلاح الجماعة وإسعادها، خفّي المسالك غامض الجوانب، تعترك به في النفس الواحدة منازع مختلفة، وتفترق بالجماعة أهواء متشاكسة، ويطول فيه المدى، وتمتحن العقول والعزائم.
فإن تكن الأمة المصرية قد مشت في عزتها إلى غايتها أو أشرفت على الغاية، إن تكن قد بلغت بالإباء والكبرياء والدأب والصبر ما أمّلت أو بعض ما أمّلت، إن تكن فرغت من الثورة والعداء إلى السلم والمودة، فإنما قفلت من جهادها الأصغر إلى جهادها الأكبر - الجهاد الذي ينظر في أحوال الأمة ما بطن منها وما ظهر، ليربّيها على الخير والحق، وينشئها على الخلق القويم، ويردّها جماعة صالحة متآخية، تجمعها المودّة ويعدل بينها الإنصاف، تلقى الخير والشر بقلوب موحدة وعزائم مجتمعة وآراء متناصرة - الجهاد الذي يعني بالجهلاء فيعلمهم، وبالمرضى فيأسوهم، وبالبائسين من الزراع والصناع فيأخذ بأيديهم إلى العيشة الراضية، ويقارب بين طبقات الأمة حتى يجمع شملها الخيرُ العام والمصلحة الشاملة - الجهاد الذي يهيئ للأمة وُلاة ينشرون السلام والأمان، ويقومون بين الناس