للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحديث ذو شجون]

للدكتور زكي مبارك

تأريخ عصر النبوة

قرأت في مجلة (الثقافة) مقالاً جيداً للأستاذ محمد مندور عن اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث، فرأيت أن أخصه بشيء من التعقيب، عساه يلتفت إلى تحرير آرائه بعض الالتفات فهو صديقٌ عزيز وله علينا حقوق. واكتفى بالتعقيب على العبارة الآتية:

(ما بالُ معظم كتّابنا قد انتهوا بالكتابة عن (محمد)؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخِر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمرٌ لا شك فيه، وهو أننا قد وصلنا من التزمت حدّاً نبرّئُ منه كل الأديان على السواء)

ومعنى هذه الفقرة أن الكتابة عن الرسول ضربٌ من المتاب، وأنها دليل على ابتلاء الجمهور المصري بالتزمت والجمود.

وأقول إن هذا التصور المنحرف ليس بجديد، فقد سبقته أوهامٌ تزعم أن الحديث عن الرسول بابٌ من الرجعية، وأن الاشتغال بأخبار النبي وأصحابه فنٌّ من التودد إلى الجماهير، وهي تحب الإفاضة في أمثال هذه الشؤون (؟!)

والحق أن عصر النبوّة الإسلامية يحتاج إلى دراسات كثيرة، وأن ما كُتب فيه لهذا العهد ليس إلا تباشير لدراسات تستغرق مئات المجلدات، لأن ذلك العصر كان مطلع نهضة إنسانية تركت أعظم الآثار الروحية والعقلية في المشرق والمغرب، وصبغت التفكير الإنساني بألوان تحتاج إلى من يدرسون عناصرها الجوهرية بتعمق واستقصاء

وإذا جاز اتهام المهتمين بتأريخ عصر النبوة بالغايات الدنيوية أو الأخروية، فلن يجوز القول بأن ذلك العصر قد وضّح في أذهان الجماهير وضوحاً يغنيهم عن التأليف الكاشف لما فيه من أسرار وآيات

ولو نظرنا في ما كتب الأوربيون في مدى عشرين سنة عن شاعر من شعراء الأساطير مثل هوميروس لوجدنا عنايتهم به تفوق عناية العرب بتأريخ حياة الرسول في مدى أجيال، مع العلم الوثيق بأن الرسول العربي ترك في الوجود آثاراً تفوق آثار من سبقه من الأنبياء، بّلْه الشعراء

<<  <  ج:
ص:  >  >>