يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاء، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب قيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!
وما أريد أن أدفع عن الأب تهمة الموت، فقد تكون الحقيقة، ولكنني أريد أن أبحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة!
انهم في نظرتي ثلاثة:
الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم! والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!
والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!
هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقون ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في فوت!
فكيف كان ذلك؟
فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي، لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقه، ويكلف عزوفا عن شئ من الكسب المادي وعن فرقعه الشهيرة الكاذبة. انه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا النتاج السريع يحقق لهم أرباح مادية عاجلة، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير.
وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. . إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه ولا يضيفون إليه شيئا، ولا يضيفون للحياة الأدبية والحياة الإنسانية جديدا.