أما الأطباء وعلماء الإحصاء فيقدرون الشباب بالسن، فمن بلغت سنه العشرين أو قبل ذلك قليلا أو بعد ذلك بسنتين فشاب وإلا فلا؛ فتحديد السن هو مقياس الشباب، كما هو مقياس الطفولة والهرم، فإن شئت أن تعرف المخلوق أطفل هو أم شاب أم شيخ فأغمض عينك وعدّ السنين، ولا تنظر إلى قوة أو ضعف، ولا إلى صحة أو مرض
وسار على هذا النمط علماء اللغة، فقالوا: مادام الإنسان في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، ثم مادام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع عن اللبن فهو فطيم، فإذا كاد يجاوز العشر سنين أو جاوزها فهو ناشئ، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، ثم مادام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى الستين
ولكن هناك شاعرا أراد أن يخرج على هذه التقاليد، وأراد أن يقيس الشباب والفتوة بالمعنى لا بالمبنى، وبالقوة لا بالسن، فقال:
يا عزُّ هل لكِ في شيخ فتىً أبدا ... وقد يكون شبابٌ غيرُ فِتْياَنِ؟
فهو لا يريد أن يعترف بأقوال الإحصائيين، ولا أقوال اللغويين، فقد يسمى الشيخ شاباً متى حاز صفات الشباب، وقد يسمى الشاب شيخاً إذا حاز صفات الشيوخ، فالعبرة عنده في التسمية الصفة لا السن، وهي من غير شك نظرة جريئة ومذهب جديد ينظر فيه إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى النتائج لا إلى المقدمات، وإلى الغاية لا إلى الوسيلة؛ فإذا عرضْتَ عليه رجلا قد ناهز الستين أو جاوزها، قد لبس في حياته العمائم الثلاث: السوداء ثم الشمطاء ثم البيضاء؛ وعرضت بجانبه من يسمونه شاباً، لم يلبس في حياته إلا العمامة الأولى. ثم سألت صاحب هذا المذهب: ما قولك دام فضلك في هذين؟ هذا أربى على الستين، وهذا في سن العشرين. فأيهما الشاب، وأيهما الشيخ؛ لم يستسخف سؤالك، ولم يعده بديهية من البديهيات، بل عده مجالاً للنظر الطويل والتفكير العميق، وقال: ليس الأمر بالسن أيها السائل، فمن رأيته منهما متهدماً قد نضب ماؤه، وذهب رواؤه، وذوى عوده، وخوى عموده، ورق جلده، وانخرع متنه، وحطمته اللذات، وأنهكت قوته الشهوات، حتى صار لا يحمل بعضه بعضاً، فهو الشيخ وإن كان ابن العشرين؛ ومن امتلأ قوة، وبلغ كمال البنية،