واستوت قامته، واعتدل غصنه، وحفظت جدته، وأحكمت مِرته، وتجلت رجولته، واكتمل نشاطه، فهو الشاب ولو جاوز الستين. إنما يلجأ إلى السن في تحديد الشباب والشيخوخة من قصر نظره، وضعفت قوة حكمه، وأراد أن يعالج الأمر من أسهل طرقه، وأقرب مسالكه، وذلك شأن الغر الأبله، لا الفيلسوف الحكيم، ولم كنا إذا قسنا العلم وقسنا الكفاية، وقسنا الخلق والصلاحية للأعمال لم نرجع في شيء من ذلك إلى السن، وإذا قسنا الشباب والشيخوخة رجعنا إلى السن؟ ليست السن مقياس الشباب، وإنما أحسن أحوالها أن تكون علامة الشباب، وقد تتخلف العلامة كحكمنا على الرجل بالعلم لأن لديه شهادة الليسانس في الآداب أو الليسانس في الحقوق، وقد يكون معه الليسانس أو الدكتوراه وليس بعالم، كما يكون في سن العشرين وليس بشاب. إن الشباب أو الشيخوخة معنى لا مادة، وقد علمتنا قوانين الحياة أن المادة تقاس بمادة، والمعنى يقاس بمعنى. فنحن نقيس الحجرة المادية بالمتر المادي، ونكيل القمح المادي بكلية مادية، ونزن التفاح المادي برطل مادي، ولكن من السخف بمكان أن تقيس الفضيلة أو الجمال أو القبح بمتر أو رطل أو قدح، فلم نقيس الشباب وهو معني بالسن وهي مادة؟
بل لو تعمقنا أكثر من ذلك لوجدنا أن حسن الرواء وجمال المنظر ومرح النشاط ليست هي المقياس الصحيح للشباب، إنما الشباب مزاج، هو محصل لمجموع قوى نفسية، هو حاصل جمع لصفات خلقية، إن شئت فقل هو الإرادة قوية تعزم العزم لا رجوع فيه، وتزمع الأمر لا محيد عنه، وترمي إلى الغرض لا سبيل إلا إليه، تعترض الصعاب فلا تأبه لها، وتخر السماء على الأرض فلا تتحول عنه؛ قد تعترف بأن هناك عقبة، ولكن لا تعترف بعقبة كؤود؛ وقد تقر بصعوبة الأمر، ولكن لا تقر باستحالته - والشباب هو العاطفة القوية المتحمسة الصحيحة، ومظاهر صحتها أنها ثابتة فليست (قشاً) تشتعل سريعاً وتخمد سريعاً، ليست مضطربة تذهب مرة يمينا ومرة يسارا من غير غرض يحدد اتجاها، وليست مائعة تحب فتذوب في الحب، وتغضب فتجن في الغضب، إنما ألجمها بعض الإلجام العقل والمصلحة والغرض - والشباب هو الخيال الخصب الواسع الأفق والمترامي الأطراف الذي يرسم الأمل ويبعث على الطموح، ويحمل المرء على أن يتطلب لنفسه ولأمته حياة خيرا من حياتها الواقعية - هذا المزاج الذي يتجمع من إرادة قوية وعاطفة حية وخيال